رحت أتأمل صور عازفة الكونترباص الفلسطينية الشابة، بنت القدس، مريم العفيفى، التى جابت وسائل التواصل الاجتماعى من حوالى أسبوع، بعدما اعتقلتها قوات الاحتلال الإسرائيلى لمشاركتها فى الاحتجاجات التى اندلعت بسبب محاولات طرد بعض سكان حى الشيخ جراح من بيوتهم، طمعا فى السيطرة على موقع آخر استراتيجى داخل القدس الشرقية. الابتسامة الهادئة للعازفة كانت تحمل الكثير من الإصرار والتحدى والسخرية والعذوبة. صارت تشبه آلة الكونترباص التى تعزفها، فى ثباتها وبلاغة تعبيرها داخل الأوركسترا، فهى العمود الفقرى للفرقة الموسيقية وأهم أصوات الباص فيها، أى أغلظ الأصوات وأخفضها طبقة.
***
عادةً فى الموسيقى الشرقية، يقتصر دورها على الجمل الإيقاعية النغمية ومصاحبة آلات الإيقاع، وهو دور محورى لإشعار العازفين بالثبات والتحكم فى سرعة اللحن وليتمكن المطرب من الغناء بثقة، هذه الثقة نفسها التى تحدثت بها مريم العفيفى إلى الجندى الإسرائيلى عندما ألقى القبض عليها وأخذت تناقشه بالإنجليزية عن أسباب اعتقاله لها والاعتداء عليها بالضرب وسحلها على الأرض بمنتهى العنف، لأنها تعترض ضمن آخرين على قرارات صدرت مؤخرا من محاكم إسرائيلية تقضى بإجلاء عائلات فلسطينية من المنازل التى شيدتها عام 1956. وبعد تكبيلها بالأصفاد، سمعنا فى الفيديو المنتشر على الإنترنت صوتا مجهولا يسألها عن اسمها، فصاحت «مريم»، وكأننا فى فيلم، وكأن قصة حب جديدة على وشك أن تولد فى أجواء الحرب، فنحن بصدد أيقونة فلسطينية جديدة مثلها مثل عهد التميمى التى وقفت بشجاعة فى مواجهة جنود الاحتلال عام 2012 وصفعت أحدهم بالضفة الغربية رغم صغر سنها، حينها انتشرت اللوحات الجدارية لصورتها فى كل مكان.
***
دائما أبدا البعد الدرامى للصورة هو سر قوتها، وعندما يتحول شخص ما لأيقونة ينطوى ذلك على مزيج من التلقائية والنية المبيتة. فى حالة مريم العفيفى شعرنا أن موسيقاها طهرت هواء المدينة المحتضرة من دنس من أعطوا نفسهم الحق فى النهب، كأن عزفها يعذب الشياطين. قارنت بينها وبين لوحات شاجال التى رسمها بدءا من عام 1910 والتى كرست فكرة عازف الكمان اليهودى المطارد التائه بين البلدان وهو يعزف ألحانا شجية حزينة للهرب من الواقع البائس للقرى الروسية وقتها أو ليتحول إلى كائن شفاف، محلق، بعيدا عن الجيتو اليهودى فى مدن أوروبا الشرقية. أعطى شاجال لعازف الكمان اليهودى بعدا دراميا مقصودا فصار أيقونة تعبر العصور وعوالم الأحياء والأموات، وكأنه قادر على البعث بموسيقاه، وهو المعنى ذاته الذى كرره وأكد عليه العديد من الشعراء والكتاب اليهود.
توقفت كثيرا عند الفارق بين الآلتين وهما من عائلة واحدة، وتريات تُعزف بواسطة قوس، لكن الكمان خفيف يسهل حمله والتجول به، فى حين الكونترباص ثابت جهير، لا يتحرك بسهولة من مكانه، لكل خصوصيته وطبيعته، وهو ما لا يمكن تجاهله، كما لا يمكن التغاضى عن حق الشعوب فى الحياة، عن موسيقى هؤلاء التى يقول لسان حالها: «أنا لا أريد مجرد البقاء حيا أريد أن أعيش».
***
تأتينا تفاصيل أكثر عن مريم فنعرف أنها عازفة فى فرقة بنات القدس التى تأسست عام 2013 لتقديم الفن التراثى بروح معاصرة، وهى أيضا عضوة فى أوركسترا فلسطين للشباب الذى نشأ عام 2004 بمبادرة من معهد إدوارد سعيد الوطنى فى رام الله ليجمع الموسيقيين الشباب الفلسطينيين من أنحاء العالم ليعزفوا معا. يلتقون سنويا فى دورة مدتها أسبوع، تتبعها جولة موسيقية، ويتم كل عام اختيار بلد مختلف لاستضافة هذه الدورة، وتدعو الأوركسترا، إضافة إلى أعضائها الثمانين، حوالى عشرة ضيوف من مؤسسات موسيقية أو فرق شابة تنتمى إلى البلد المضيف. أنغام هؤلاء تعلو فوق الصمت المطبق الذى أحاط بالقضية الفلسطينية فى الآونة الأخيرة، فكل ما يحدث لم يجد صدى، ما وجده هو الصمت فقط، وكأن الشعب تحول جميعه إلى غير مرئيين. نزاع بلا نهاية، وقضية تخلى العالم عنها بشكل محسوب أو بدافع السأم والتعب.
حلم الدولة الفلسطينية تبخر، راح أدراج الرياح، والآمال التى عقدها البعض على اتفاقات أوسلو فى تسعينيات القرن الفائت صارت هباء منثورا. لم يتبق من كل ذلك سوى كومة صغيرة من الرماد والركام، وصور لأبطال يقاومون، وأغان تراثية نرددها فى لحظات الضعف والشجن.
(*) بالتزامن مع “الشروق“