

في الجنوب، كما في الضاحية الجنوبية والبقاع، بدا الدمار تفكيكًا مؤلمًا لما تشكّل على مدى أربعة عقود من فكرة «الانتصار» المتراكمة منذ العام 1982. إذ لم يكن الشيعي قد خرج تمامًا من موقعة كربلاء، حتى غُمرَ مجددًا بذكرى الحسين في صورة «السيد». من هناك، تسلّلت الفكرة القلقة: هل نحنُ مجددًا وحدنا؟
منذ العام 1982، والسؤال نفسه يعاود الظهور بأقنعة مختلفة. يومها، انسحب ياسر عرفات من بيروت، تاركًا مخيمات الفلسطينيين بلا سلاح، برغم أن بعض من حوله همس له بضرورة ترك بضع بنادق، لا لمواجهة جيش، بل ليكون ثمة شيء يردّ عن النساء حين ينقضّ الوحش. بعد أيام، دخل مقاتلو “القوات اللبنانية” إلى صبرا وشاتيلا بغطاء إسرائيلي، وارتُكبت المجزرة.
إنكَ أمام عدو لا يخجل من قتل الأطفال، ولا يرف له جفن أمام المجازر، ويملك من الحلفاء من يُجيدون التواطؤ خلف بيانات الإنسانية. فهل تظن أن في وسعه أن يحميك حين تخلع درعك وتسير أعزلًا في ميدان مملوء بالذئاب؟ سوف تقول إن السلاح لم يحمنا في الحرب الأخيرة، وأنت بذلك تغفل نقطة شديدة الأهمية، ألا وهي حصر الخسائر بعدد كان سيتضاعف لولا السلاح
اليوم، يُعيد الوجدان الشيعي نبش هذه الصفحة، كتحذير بارد: لماذا نُكرّر الأخطاء؟ وهل تملك الطائفة ترف تسليم سلاحها، بينما لا أحد يضمن لها الحد الأدنى من الحماية، لا من الداخل اللبناني المنقسم، ولا من النظام الدولي الغارق في ازدواجية المعايير؟
يضاف إلى ذلك سلسلة مؤشرات سوداء: ما حصل في الساحل السوري، توترات السويداء، تفجير الكنيسة في دمشق، الصدامات الحدودية في الشمال الشرقي، ومداهمات ما بعد انتخاب أمين الجميل، حين ارتدى بعض عناصر “القوات اللبنانية” زيّ الجيش، ودخلوا بيوتًا في بيروت الغربية، اختطفوا منها رجالًا لم يعودوا حتى اليوم. هل يحتاج الشيعي في لبنان أكثر من ذلك ليفهم أن لحظة «السذاجة السياسية» مكلفة بشكل وجودي؟
لا أحد يطلب منك – وأنت المعارض للحزب – أن تُغيّر قناعاتك أو أن تصمت على الأخطاء. من حقك – وبل من واجبك – أن تطرح الأسئلة، وتُحرج السردية الأحادية، او تصوِّب على إيران، وتلمّح إلى تغطية الفساد، وتوثّق أي تسلّط إذا وُجد. لكن هذه اللحظة بالذات ليست لحظة تصفية حسابات، ولا لحظة شماتة. فالسردية تتغيّر حين يصبح الرأس المطلوب ليس الحزب، بل البيئة التي شكّلته، أي الناس، أي سكّان القرى، وحرّاث الأرض، وزرّاعها، وهؤلاء لو سألتهم كُلّهم اليوم لأتاك الجوابُ واحداً.
لذلك، إن كنت تختلف مع الحزب، لا تجعل من نفسك مطية لعدو لا يُفرّق بين من يحمل البندقية ومن يرفضها. اللحظة الراهنة تتطلب عقلًا كبيرًا، حتى من داخل الموقف المعارض. عليك أن تخرج من حفلة الشتائم، وتدخل غرفة الحرب: هناك، أمام خارطة المصالح الدولية والإقليمية، يتم سحق الأمم الصغيرة التي تظن أن الخلاص يأتي بلا كلفة.
لا أحد يطلب من الشيعي اللبناني أن يُقدّم أوراق الطاعة، لكن من الحماقة أن يُطلب منه التخلّص من السلاح، بينما الطائرات تنخر في سماء البلد، وفعليّاً ما من ضمانات تذكر، لا من الدولة العاجزة، ولا من مجتمع دولي خاضع لمنطق الأقوى.
إنكَ أمام عدو لا يخجل من قتل الأطفال، ولا يرف له جفن أمام المجازر، ويملك من الحلفاء من يُجيدون التواطؤ خلف بيانات الإنسانية. فهل تظن أن في وسعه أن يحميك حين تخلع درعك وتسير أعزلًا في ميدان مملوء بالذئاب؟ سوف تقول إن السلاح لم يحمنا في الحرب الأخيرة، وأنت بذلك تغفل نقطة شديدة الأهمية، ألا وهي حصر الخسائر بعدد كان سيتضاعف لولا وجود السلاح ومن يحمله.
في المقابل، تستسهل بيئة المقاومة اتهام أي آخر بالعمالة لمجرد مخالفته للرأي والتوجّه، فهذا الآخر لا يقل عداء للإسرائيلي، ولا يريد الارتماء في الحضن الأميركي، لكنه يقرأ بكتاب غير كتابك، وملاحظاته كثيرة، وأغلبها محق ولا بد من التفهم ثم التفهم.
كل ما في الأمر أن هذا الاختلاف كان سيحمل عمقاً صحّياً يحتاجه لبنان، لولا قرار اتخذته حكومة لبنان، مساء الخميس في السابع من آب/أغسطس الجاري، عبرته الأساس في تنفيذه، وهو ما لا يبدو أنه بيد أحد حتى الآن.