حاكم مصرف لبنان.. إنْ عُزلَ!
Lebanese protesters wave national flags during a rally in downtown Beirut on October 20, 2019, on the fourth day of demonstrations against tax increases and official corruption. - Thousands continued to rally despite calls for calm from politicians and dozens of arrests. The demonstrators are demanding a sweeping overhaul of Lebanon's political system, citing grievances ranging from austerity measures to poor infrastructure. (Photo by Patrick BAZ / AFP) (Photo by PATRICK BAZ/AFP via Getty Images)

قلما تجد دولة في العالم، يبقى موظف في الدولة في منصبه لمدة تناهز الثلاثين عاماً، وخاصة في منصب حساس يرتبط بمصير الناس، وفي مقدمة هذه المناصب المسؤوليات المالية والنقدية.

في حال فشل هكذا مسؤولين في هكذا مناصب، يُصار إلى استبدالهم بمسؤولين آخرين، كحال فريق كرة القدم عند فشله في الفوز بالبطولات. تكون الخطوة الأولى تغيير رأس الفريق، أي المدرب.

في لبنان، ما زال بعض المتنفذين يشكلون خط الدفاع الأول عن حاكم مصرف لبنان الذي فشل في تحقيق استقرار النقد الوطني والحفاظ على سلامة أوضاع القطاع المصرفي، والدليل على ذلك الأزمة العميقة المالية والاقتصادية التي نشهدها منذ 18 شهراً. استطاع سلامة تكوين شبكات من خطوط الدفاع الأمامية لصدّ الهجمات عليه من خبراء اقتصاديين وماليين وسياسيين.

هل يجب عزل رياض سلامة من منصبه، سواء ثبُت عليه الادعاء السويسري في قضية التحويلات المالية أم لم يثبُت؟

نعم.. أما الأسباب الموجبة فهي الآتية:

أولاً؛ التدهور الدراماتيكي لسعر صرف الليرة اللبنانية:

 لطالما طمأن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اللبنانيين على الاقتصاد اللبناني، مؤكّداً أنّ الليرة اللبنانية بخير ولا تتأثر بالازمات السياسية والاقتصادية على عكس الإشاعات المنتشرة، وأنه مرتاح إلى سعر صرف الليرة وهو متحكم بالسوق (4-10-2018). وأكد سلامة أن الليرة اللبنانية مستقرة “وستبقى كذلك، وخصوصا أن إمكانات الدفاع عن سعر النقد الوطني تعززت، إذ بلغ الإحتياطي بالعملات الأجنبية الذي يملكه المصرف المركزي مستويات قياسية هي الأعلى تاريخيا”، (موقع  Arab Economic News في 10-10-2016). عندما يحصل هذا الانهيار الكبير في سعر صرف الليرة ليصل الدولار إلى عتبة 13000 ليرة لبنانية، هذا يثبت أن حاكم مصرف لبنان غير قادر على تنفيذ مهامه إما لقصور وظيفي أو أنه مساهم بشكل متعمد في تعميق الأزمة، وفي كلا الحالتين يكون أخلّ بواجباته الوظيفية.

ثانياً؛ التدقيق الجنائي:

يعتبر حاكم مصرف لبنان المسؤول النقدي والمالي الأول وهو مصدر جميع العمليات المالية التي تحدث وهو في عملية التدقيق الجنائي المؤثر الأول في هذه القضية لأن جميع المعلومات والمعطيات يجب أن تمر من خلاله. وقد قام الحاكم كما هو معروف للجميع بحجب معلومات جعلت شركة ألفاريز أند مارسال تعتذر قبل أن يتجدد التواصل بين مصرف لبنان والشركة نفسها عبر وزارة المال ومفوض الحكومة لدى مصرف لبنان. السؤال المطروح حالياً، هل سيسهل مصرف لبنان مهمة الشركة في مصرف لبنان على أن تمتد لاحقاً لتشمل جميع المؤسسات والإدارات العامة؟

ثالثاً؛ الأموال المهربة إلى الخارج:

لا خلاف حول تهريب مئات ملايين الدولارات إلى الخارج في عز الأزمة المستفحلة، برغم تفاوت التقديرات حول حجم الأموال المحوّلة من لبنان إلى الخارج، منذ أحداث 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، أو حتى ما قبلها، وهي مقدرة بما بين 3 إلى 10 مليارات دولار. من الصعب بمكان تحويل هذه المبالغ الضخمة دون علم مصرف لبنان. وجاءت قضية التحويلات التي أجراها الحاكم لتزيد الطين بِلّة، وهو المؤتمن الأول على الحفاظ على الاستقرار النقدي، وأصبح هناك شك في التعميم الذي أصدره تحت رقم 154 والذي طلب من المصارف حث عملائها على استعادة 15% من الودائع التي خرجت من لبنان منذ منتصف العام 2017، وبذلك يستثني الأموال التي قام هو بتحويلها في العام 2016. وهذه القضية أيضاً من مترتبات الإخلال الوظيفي.

في ظرف استثنائي، يحق لمجلس الوزراء اتخاذ قرار العزل وهناك شواهد تاريخية على اتخاذ قرارات أقل أهمية وفي ظل ظروف عادية وليست استثنائية كالواقع الحالي مثل قرار حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المستقيلة تشكيل الهيئة العامة للإشراف على الإنتخابات عام 2013

رابعاً؛ الهندسات المالية:

في العام 2016، ضخّ المصرف المركزي أرباحاً استثنائية إلى المصارف وكبار المودعين، قدّرت حتى نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2016 بنحو 4.8 مليارات دولار تحت ما يُسمى الهندسات المالية، تبعتها هندسة مالية جديدة في الشهر الأخير من العام 2018، لمصلحة «سيدروس إنفست بنك»، مع أرباح فورية لأصحاب هذا البنك والمشتركين معهم بقيمة 30 مليون دولار. هذه الهندسات التي ما فتئ الحاكم يدافع عن موجبات القيام بها وضرورتها في الحفاظ على النقد اللبناني وعلى استمرارية القطاع المصرفي، لا بد وأن تكون عملية شفافة إذا كانت لمصلحة الوضع النقدي والمالي.. أما إذا كانت أهدافها مختلفة فحتماً يجب أن تخضع للمساءلة.

خامساً؛ انهيار القطاع المصرفي:

لطالما أكد حاكم مصرف لبنان “أن البنوك بخير ولا خوف على السيولة عندها” وأن القطاع المصرفي “صمد ولا يزال وسيبقى صامداً في مواجهة أزمات عدة تعرض لها لبنان”(رويترز 15/5/2019). هل فعلاً بقي القطاع المصرفي صامداً كما كان يردد سلامة؟ أم أننا أمام انهيار غير مسبوق في القطاع المصرفي برمته لم يحدث حتى عند وقوع أزمة “بنك أنترا” الشهيرة. أوليس رأس الهرم والمسؤول الأول يجب أن يتحمل مسؤولية هذا الانهيار؟

إقرأ على موقع 180  بصفقةٍ أم بحربٍ.. لا بدّ من هزيمة التطرّف

سادساً؛ سمعة لبنان المالية:

إن قضية التحويلات المالية التي قام بها سلامة أصبحت قضية دولية، ووفق ذلك تصبح سمعة لبنان المالية دولياً على المحك وتعمق من أزمة الثقة الدولية التي إهتزت منذ إعلان التعثر المالي والتوقف عن دفع التزامات اليوروبوند في آذار/ مارس 2020 (قرار حكومة الرئيس حسان دياب).. وتقتضي سلامة التحقيق أن لا يكون رياض سلامة في مركزه أقله خلال فترة التحقيق الدولي، ذلك أن قضية التحقيق الجنائي السويسري ليست محطة ثانوية وعابرة في التاريخ اللبناني المعاصر، بل هي محطة مفصلية يجب أن يُبنى عليها إذا كان ثمة من يراهن على إستعادة القطاع المصرفي عافيته في المستقبل.

سابعاً؛ الإدّعاء القضائي اللبناني:

قام المدّعي العام التمييزي في لبنان بإرسال طلبات إلى السلطات القضائية في كل من سويسرا وفرنسا وبريطانيا بتجميد أموال حاكم مصرف لبنان وشقيقه ومساعدته والحجز على جميع ممتلكاتهم لمصلحة الدولة اللبنانية، وذلك بشبهة الاختلاس من أموال مصرف لبنان وتبييض وتهريب الأموال. أليس ذلك بحدّ ذاته إساءة كبيرة لسمعة لبنان المالية وتساهم بمزيد من الانهيار النقدي والاقتصادي. لقد نصت المادة 19 من قانون النقد والتسليف: “في ما عدا حالة الاستقالة الاختيارية، لا يمكن إقالة الحاكم من وظيفته إلا لعجز صحي مثبت بحسب الأصول، أو لإخلال بواجبات وظيفته، أو لمخالفة أحكام الباب 20 من قانون العقوبات (أي ارتكاب جنحة أو جناية تعاقب عليها الشريعة اللبنانية)، أو لخطأ فادح في تسيير الأعمال”. مما تقدم من الأسباب الآنفة الذكر، يمكن القول بأن موجبات إقالة الحاكم متوفرة وهي: إخلاله بواجباته الوظيفته، ارتكابه جناية تعاقب عليها الشريعة اللبنانية ولخطأ فادح في تسيير الأعمال. والإشكالية هي: هل تمتلك حكومة تصريف الأعمال صلاحية إقالته؟

خلاصة:

في ظرف استثنائي، يحق لمجلس الوزراء اتخاذ قرار العزل وهناك شواهد تاريخية على اتخاذ قرارات أقل أهمية وفي ظل ظروف عادية وليست استثنائية كالواقع الحالي مثل قرار حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المستقيلة تشكيل الهيئة العامة للإشراف على الإنتخابات عام 2013. وعلى النواب ممثلي الشعب اتخاذ كل ما يلزم بحسب ما تتيحه لهم القوانين لدعم هذا التوجه وإلا فإنهم مشاركين في مافيا الفساد ومنظومتها.

إن مكافحة الفساد لا تقتصر على عزل الحاكم وحده أو أن يُضحى به على مذبح التسويات ليكون كبش الفداء، فهو عنصر واحد من ضمن شبكة متكاملة، ولولا الغطاء السياسي من قوى سياسية لما تجرأ على الإخلال بمقتضيات وظيفته، أي على طريقة “مرقلي تمرقلك”.

لقد أصبح رياض سلامة يشكل عبئاً على الوضع النقدي والمالي بمجرد أن رُفعت دعاوى بحقه في لبنان والخارج بمعزل عن نتيجتها. لذلك، أية مقاربة يجب أن تبدأ من عند تعيين البديل لأن مجرد التفكير بالإتيان بحزبي يحل محله أو أن يؤول منصبه إلى نائبه الأول يعني أن المجتمع الدولي سيكون أول مدافع عن بقائه في موقعه!

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

أستاذ جامعي وخبير إقتصادي، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  مصارف لبنان تدفع ثمن توسعها.. العراق نموذجاً