إلياس الفلسطيني يموت، قبل أيام قليلة من مرور سنة كاملة من مقاومة الطاغوت الإسرائيلي في «طوفان الأقصى». هي سنةٌ أطول من عدد الشهور، أصبح فيها اسمُ فلسطين يرفرف في جهات الدنيا وشبيبة العالم تفتح الأبواق ولا تسكت. إلياس اللبناني، المثقف، الذي تعلم من المقاومة الفلسطينية حب الحياة وكرس لها حياته، يرحل كما رحل قبله صديقاه الكبيران إدوارد سعيد ومحمود درويش. حياة في حبّ فلسطين والكتابة عن فلسطين، لا تنقضي أبداً. تلك حياته. منذ شبابه التحق بالمقاومة الفلسطينية في الأردن ومنها في لبنان ثم لا نهاية لعلاقته بالمقاومة، بالشعب الفلسطيني، بكتابة الشهادة المتواصلة على ما كان من جرائم إسرائيل وما يكون. فلسطين في مركز كلماته وفي تموجاتها، من رواية إلى رواية، ومن مقالة إلى بيان أو مسرحية أو محاضرة. فلسطين رحمُ ما كتب في مجلات وصحف وما عبّر عنه في مراكز وندوات ودروس جامعية.
هكذا عرفته منذ انضمامه إلى هيئة مجلة “مواقف” سنة 1972، وأنا في سنتي الجامعية الأخيرة للإجازة بكلية الآداب بفاس. ثم تعرفت عليه، في الكلام والضحكات وبلاغة السخرية، أثناء لقائنا الأول، سنة 1978 بفاس، بمناسبة انعقاد ندوة الرواية العربية. سهرنا في شقة عزالدين التازي كما لو كنا نتعارف منذ أيام الطفولة. نحكي ونضحك. وإلياس يحب الضحك الصاخب. ضحك النفوس الحرة.
***
أنا الآن جالسٌ أمام البحر. كتب مبعثرة وحاسوب. دفتر وأقلام. أكتب صامتاً، لأن الكتابة صمت. في لمحة خاطفة أستعرض ما انفرد به إلياس بالدراسة والإبداع والموقف في الموضوع الفلسطيني، وأقتربُ مما تقاسمناه، أكثر من أربعين سنة، في صحبة أدونيس ومحمود درويش، عبر لقاءات وكتابات ومراسلات. لكل فترة من هذه الفترات أحوالُها وارتجاجاتُها. لكن العلاقة بينه وبين محمود درويش وإدوارد سعيد ذات خصوصية في حياة الثقافة العربية، خلال انخراطه في الكتابة والصحافة مدة تتجاوز بقليل خمسين سنة. لا يفارقني وفاؤه للقضية الفلسطينية، وفي تفاصيلها ترتسم علاماتُ وفائه لصديقيْه الكبيريْن. وهما بدورهما بادلاه الوفاء مثلما بادلاه التفاعل والمسار المشترك.
***
ضحكنا عندما كنا نواصل الحديث، في شقة عزالدين التازي، وسألني عن سنة ميلادي فقلت هي 1948. كيف، أنت أيضاً من أبناء 1948؟ رد عليّ، وهو يذْكر أنها سنة نكبة فلسطين. نعم، كان ميلادنا معاً في السنة ذاتها. أنت في بيروت وأنا في فاس. والبقية تأتي.
منذ ذلك اللقاء الأول في فاس، تعدّدت لقاءاتنا. من بين ما لا أنساه، تلك الزيارة المفاجئة في شقتي بالمحمدية في يوليوز/تموز سنة 1979، رفقة خالدة سعيد، أدونيس ومحمود درويش. كنت في فترة النقاهة بعد عملية جراحية أجريتْ لي. جاؤوا مباشرة من أصيلا دون إخباري ولا علم لهم حتى بعنوان السكنى. بمجرد دخوله إلى الشقة سلم على أمامة، فرح بخليل وصفوان، وتوجه لي بلغته المرحة، يسألني باللهجة المغربية عن حالتي الصحية. لا باسْ يا السّي محمد؟ زيارة المحبة بكلمات التعاطف ونشوة اللقاء.
مفاجأة أخرى للقاء في نيويورك سنة 1982، على إثر العودة من واشنطن، التي كانت فيها جامعة جورج تاون نظمت ندوةً عن البلدان المغاربية وكنتُ أحد المشاركين فيها. ولأنني كنت مريضاً بهشاشة رأس عظم الفخذ الأيسر، حجز لي المرحوم العزيز حليم بركات موعداً مع طبيب اختصاصي في واشنطن ورافقني إلى المستشفى، كما حجز لي إلياس موعداً مع طبيب آخر في نيويورك واهتمّ بمرافقتي لزيارته. مبادرةٌ بنبل إنساني أظـل أذكرها لهما معاً بتأثر شديد. عندما وصلنا، عبد الكبير الخطيبي وأنا، إلى نيويورك، استقبلنا إلياس في بيته. كانت عنايته بنا تعبّر عن المحبة التي نشأتْ بيننا منذ تعارفنا المباشر. أخذنا لزيارة إدوارد سعيد في مكتبه بجامعة كولومبيا، ورفقته صعدنا إلى سطح مركز التجارة العالمية في وسط وول ستريت، وتجوّلنا، بسيارة إحدى طالبات حليم بركات تعمل في مترجمة في مقر الأمم المتحدة، في المدينة تحت أضواء الليل.
ثم كان لقاؤنا سنة 1990 بالأردن، بمناسبة الذكرى الثالثة للانتفاضة الفلسطينية. لم نفترق عن بعضنا البعض، محمود وإلياس وأنا. لقاء دام أربعة أو خمسة أيام، اتفقنا خلالها مع محمود على ترتيب زيارة لأحد المعابر نقف فيه على مشهد العبور من وإلى فلسطين. ولأننا اكتشفنا، في آخر لحظة، أن المعابر مغلقة ولا أمل في تحقيق رغبتنا، اقترح علينا محمود قضاءَ النهار على شاطئ البحر الميت حتى يأتي وقت الغروب ونشاهد أضواءَ القدس. كان الاقتراح محفزاً على الاستجابة الفورية. عشنا، خلال ذلك النهار من 13 فبراير/شباط 1990، لحظة استثنائية، تداخلت فيها الأحاديث بالذكريات والضحك والنكات المُستملحة والانشراح برغم ما كان يتخللها من وقوف على المأساوي في تجربة عبور الفلسطينيين من وإلى الضفة الغربية. قبيل اتقاد أضواء القدس اقترح علينا محمود أن يكتب كل واحد منا نصاً عن الزيارة فابتهجنا بالاقتراح وقبلناه على التو، مع الموافقة على أن تنشر الكتابات الثلاثة في مجلة الكرمل. كذلك كان. كل واحد منا كتب نصه الشخصي.
***
لم تنقطع لقاءاتنا. كان اختلاف الأجناس الأدبية التي مارسنا فيها الكتابة يُغيّـر وجهة اللقاءات الثقافية أو الأدبية بيننا. فهو يشارك أكثر في لقاءات تخص الرواية ويحاضر في الولايات المتحدة، أما أنا فكنت أشارك في لقاءات دولية أو عربية تخص الشعر، كما أنني كنت أدرس في جامعة الرباط. هي مرحلة الإنتاج الإبداعي والانغمار في ترجمة بعض أعمالنا. عوائق باعدتْ بيننا. لكن لقاءاتنا استمرت في بيروت ولندن وبرلين. لكل مدينة وقائع وأحاديث. وفي 2007، كانت مفاجأة جائزة العويس. إلياس وكيليطو وأنا حصلنا على الجائزة. في أول الصباح نادى عليّ إلياس من بعيد، ونحن نتوجه إلى المطعم: السّي بنيس، ماذا تفعل هنا؟ تعانقنا وضحكنا وتناولنا وجبة الفطور. كان سعيداً بفوزنا نحن الثلاثة. عندما حضر الإداري المكلف بالمكافأة المالية سلم لكل واحد منا شيكاً بنفس القيمة، ثم بسرعة عاد وطلب من إلياس أن يعيد إليه الشيك لأنه نال الجائزة مناصفة مع كاتب قصة مصري، لم أعد أتذكر اسمه. عندها، احتج إلياس على الطلب، وقال أقبلُ المناصفة في التسمية لا في القيمة المالية. وأنا تضامنت معه. في النهاية، خلاصْ. قال. واستلم الشيك بنصف القيمة.
***
في فبراير/شباط 2019 كان آخر لقاء بيننا في الدار البيضاء. بعث لي إلياس برسالة إلكترونية من بيروت يخبرني فيها أنه سيصل بعد يومين إلى المغرب للمشاركة في جلسة بمعرض الدار البيضاء الدولي للكتاب، وأشار في الرسالة إلى الفندق الذي سينزل فيه، كما طلب مني أن أوفّر له رقم هاتف صديقنا أنيس بلافريج.
في صباح الوصول زرته بالفندق. وجهك مشرق، يا إلياس. هذه مفاجأة بجمال الصداقة وندرتها في زمن يتبرأ من الثقافة. كان يومنا خاصاً بلقائنا نحن الإثنين. مدّ لي نسخة من روايته الجديدة، “اسمي آدم”. هنّأته وشكرته. اقترحت عليه أن نتجول في الدار البيضاء التي يزورها أول مرة. وجهتنا الأولى كانت مسجد الحسن الثاني. تحمّس للزيارة. مشينا على طول الكورنيش المحاذي للمسجد. نشاهد العمارة من بعيد مع المئذنة، محاطة، من جهة النتوء، بأمواج المحيط الأطلسي. نمشي ونتوقف لنستلذّ جمالية المسجد باتساع حجْمه وطول المئذنة بارتفاع مائتين وعشرة أمتار. بدا لي إلياس يتكلم بوقار حكيم. يقارن بين المسجد والكاتدرائية. يتكلم عن العلاقة بين البناية وبلوغ حالة الخشوع. وقار مفتتح الشيخوخة. ونحن معاً نمشي ببطء، نتوقف ثم نستأنف المشي. لاحظ تحسّن مشيتي عما كانت عليه من قبل. راح الألم، يا محمد؟ نعم، راح. أخبرته بالعملية الجراحية التي أجريتْ لي في السنة الماضية.
داخل المسجد قضينا وقتاً في تتبع تفاصيل العمارة والزخارف وتخطيط آيات قرآنية بالخط المغربي على الخشب، وطريقة توزيع التزاويق بين الامتلاء والمساحات الفارغة على الجبس والزليج. معْلمة تلخص فن عمارة المساجد المغربية الأندلسية وتبدع فيها. في كل ركن من المسجد يتمهّل في الحركة. يسألني وأنا أجيب بما يمكن أن يجمع بين جمالية العمارة والتاريخ. هناك، قضينا أكثر من ساعة، بين زائرين أغلبهم أجانب. خارج المسجد، تجوّلنا بين الملحقات، التي تكمل فكرة المسجد الحديث. وفي مقهى بالقرب من المسجد جلسنا نستريح ونتحادث. مما أتذكره، أنه سألني عن أيّ عمل أشتغل عليه فأخبرته بكتاب فلسطين، ذاكرة المقاومات. شرحت ما أقصده من الكتاب وطبيعة مادته. تتبع حديثي بإنصات عميق. سألني عن أسماء ونصوص، وأنا أقدم توضيحات. ما رأيك في عنوان الكتاب؟ سألتُ، جميل. أجاب. وفي ثنايا الحديث تناولنا زمننا الذي ليس لنا فيه سوى أن نقاوم ونبدع في معنى كلمة «المقاومة»، مما يغْني دلالة الكلمة ويوسع مجال الخيال، في الكتابة. لذلك اقترح عليّ أن أضيف مقطعاً من روايته الجديدة إلى نصوص الكتاب. نبّهني الاقتراح على تدقيق معيار انتقاء النصوص، لأنني وضعتُ مخططاً لا بدّ من احترامه، حتى يتحقق للكتاب بنـاؤه الذي يتوافق مع نسقه الخاص. من المقـهى توجهنا إلى المحمدية، حيـث شاهد ما أصبحتْ عليه المدينة بعـد أربعين سنة على زيارته الأولى لها.
***
في مساء اليوم التالي، 13 فبراير/شباط، حضرتُ في الرابعة بعد الزوال إلى الجلسة الخاصة بإلياس، التي حاوره فيها عبد الفتاح لحجمري، عن روايته الصادرة في جزئها الأول بعنوان “أولاد الغيتو، اسمي آدم”. تناول إلياس فضاء الرواية الذي يُوثق للشهادة على عذابات الغيتو التي عانى منها الفلسطينيون ولا نعرف عنها شيئاً. فتح الحديث على مداخل إلى وقت الكتابة لديه وتقنيتها ولغتها وتعلقه بشعر أبي الطيب المتنبي. مما أثار فضولي ما تناول به مسألة إعادة الكتابة، بما يفيد أن الكتابة تصبح تجربة عندما يعمل الكاتب على تصفية اللغة من المتداول والمبتذل. كنتُ، وهو يتحدث بنشوة ومتعة بحضور جمهور من قرائه ومتتبعي أعماله، أتذكر بعضاً مما كنت قرأت له من أعمال. دراسات في نقد الشعر، روايات تؤرخ للكتابة الروائية لديه. رحلة غاندي الصغير، باب الشمس، يالو، كأنها نائمة. بعد تلك الجلسة الهادئة، التي امتزج فيها صوت الروائي بصوت الشاهد على المأساة الفلسطينية، صاحبني إلياس إلى رواق وزارة الثقافة الإسبانية، حيث نظمت الوزارة جلسة لتكريمنا، صديقي الشاعر الإسباني الكبير أنطونيو غامونيدا وأنا، بحضور مترجميْنا. ألقى المترجم الصديق ميغيل كانْيادا كلمة تناول فيها كتابتي وما تمت ترجمتُه من أعمالي إلى الإسبانية، وإلى جانبه تكلم غامونيدا وأخذت بدوري الكلمة. كان إلياس يجلس قبالتي، ينصت إلى الكلمات والقراءات. ربما أخذه التأمل بوجه منشرح. في نهاية الجلسة توادعنا، بكلمات المحبة.
***
لا أختصر ولا أختزل. كلمتي عنك، يا عزيزي إلياس، عنوانها الوفاءُ لك، لكتابتك، لمواقفك، ولما كان بيننا. بهذا الوفاء أجلس قريباً منك، أعيد تأمل معنى الكتابة ومعنى الحياة والموت. ودّعتُ، في السنوات الأخيرة، عدداً من أعز الأصدقاء. وها أنت، برحيلك، تضاعف شعوري بالوحدة. وحدة من يفقد الذين كان الحوار معهم طريقة في تعلّم ضرورة الأدب والمقاومة في آن. كانت لنا، منذ السبعينيات الماضية، مراسلات. آنذاك كنا نكتب الرسائل بخط اليد. ولي منك بخط يدك رسائل، هي أمانة أحتفظ بها.
من أجمل الرسائل ما تبادلناه في فترة الحرب اللبنانية الأهلية. كنت ألازم الفراش مدة سنتين، وأمشي في سنة ثالثة بعكازتين. آنذاك كانت رسائلك طاقة من الفرح بالحياة. لم أكن أنزعج لمرضي ولم أكن أنشغل به عن الكتابة. كانت أيام الموت في لبنان، وأنت تخبرني عن تفاصيل الحياة المطوقة بالموت والخيانات والقدرة على المقاومة. أتذكّر أنني، من ملازمة الفراش، كتبت قصيدة أهديتها لك بعنوان «موسم الموت». وفرحتُ لأنها وصلت إليك وقرأتَها. لم أكن أطمح إلى أكثر من ذلك.
***
لا أنسى أيضاً. مررنا بفترة تشتت، اندثرت فيها مجلات واضمحلت أفكار. أرى إلى ذلك، في زمن أصبح اللقاء مفتقداً والحوار مصادراً. وعلى إثر الربيع العربي، شاركتُ بطلب منك في العدد الذي خصصتْه مجلة الدراسات الفلسطينية للموضوع. وبعد انفجار بيروت سنة 2020 استجبت لطلبك وكتبت عن بيروت، كما عشتها في الكتاب المدرسي ثم في ثقافتها وأعلامها وحركتها النهضوية والتحديثية. وفي كل نداء منك، لإمضاء بيان، لأبداء رأي، لتقاسم وثيقة، كنت أسعى إليك بجسد مجنّح، يطوي المسافات بيننا.
آخر رسالة منك وصلتني بتاريخ 3. 3. 2022. بإمضائك وإلى جانبه إمضاء همت زعبي. طلبت مني في الرسالة أن أكتب في موضوع الملف الذي تهيئه مجلة “شؤون فلسطينية” عن «المنفى في الوطن». موضوع شغلني عبر سنوات وكتبت فيه أكثر من مرة، وهو لا يُستنفد. تأسفت لاعتذاري عن تلبية الدعوة، لأني كنت مرتبطاً بالتزامات لا تسمح لي بالاستجابة لطلبك في الموعد المحدد.
هل كان ذلك قليلاً أم كثيراً؟ لست أدري. في المكان القصي من نفسي أتأمل وحدتي. وفيما أنا أراك الآن، في كل آن، يستعصي عليّ ألاّ أمنح للزمن بيننا مكاناً أرفع فيه الكلمات إلى أعالي الفرح بالصداقة، بالكتابة، بالحياة.