إذًا العد العكسي للإستحقاق الانتخابي قد بدأ. وزير الداخلية محمد فهمي أعلن بإسم الحكومة عن التوجه لإجراء الإنتخابات النيابية في موعدها، أي في شهر أيار/ مايو 2022. بالطبع لن تجري الإنتخابات البلدية قبل النيابية خشية تأثير نتائجها على سلطة سياسية تتهيب أي إنتخابات، وخاصة بعد تأجيل إنتخابات نقابة المهندسين لأكثر من سنة.
أين المجموعات السياسية التي ترفع شعار التغيير من هذا الإستحقاق؟
تنقسم هذه المجموعات إلى فئتين كبيرتين، الأولى منهما ترى الإستحقاق الإنتخابي عملية ميكانيكية من منظار ضيق، ألا وهو إستبدال نواب حاليين بنواب جدد. لذلك، تجهد هذه الفئة في البحث عن مرشحين أو ما يُطلق عليهم “وجوه” يشكلون رافعة لحملتها الإنتخابية. معظم هذه المجموعات مكونة من عدد بسيط من خبراء في قطاعات معينة أو أكاديميين بعضهم/هن طامح للترشح أو لتبؤ موقع وزاري أو نيابي. عمليًا لا تضم هذه المجموعات أعضاء يسائلونها عن عملها وخططها. تركّز في عملها على خلق نشاطات جوهرها إعلامي. جزء منها يعمل على إنشاء تحالف مع أحزاب وشخصيات سياسية كانت في الحكم مثل النواب المستقيلين (حزب الكتائب، ميشال معوض، إلخ…) بما يساعدها على البروز ويعوّض غياب القاعدة الشعبية لديها. التحدي الآخر هو في إعطاء مضمون “ثوري” عبر تحالفها مع بعض مجموعات ثورة 17 تشرين.
على المجموعات التنبه من السلطة العميقة، أي أصحاب المصالح الكبرى الذين يهابون المحاسبة مع علمهم بإنتهاء صلاحية السلطة القائمة من جهة، وهم يحضّرون أنفسهم للمشاريع القادمة للبنان أو لسوريا عبر لبنان تأمينًا لمصالحهم من جهة ثانية
أما الفئة الثانية من المجموعات، فترى الإستحقاق الإنتخابي عبارة عن محطة أساسية في إطار مسار سياسي تراكمي. ينصب عمل هذه الفئة على بناء قاعدة شعبية تتبنى مشروعها السياسي ومستعدة للإنخراط دفاعًا عنه. تعتبر هذه المجموعات أن مقارعة السلطة لا يكون بإستبدال وجوه بوجوه أخرى، بل من خلال مشروع سياسي يتم تبنيه من الناخبين أولًا. التحدي الأكبر لهذه الفئة من المجموعات يكمن في إيجاد مشتركات كافية في ما بينها والقبول بتسوية جامعة. معظم أعضاء هذه المجموعات من المتطوعين المتحمسين الذين يتمسكون بهويتهم السياسية، مع العلم أن عددًا منهم يعملون منذ مدة على خلق تحالفات مع مجموعات شبيهة بهم/ بهن سياسيًا.
من البديهي أن اللبنانيين مشدودون للتغيير، ويعتقدون أن لا مناص من تحالف جميع قوى الثورة ضمن لوائح موحدة على مساحة لبنان بأسره. وإن كان هذا الإعتقاد الحسابي مبسط في فهم العملية الإنتخابية، إلا أنه سائد لدى المواطنين التوّاقين للتغيير ولدى عدد كبير من الناشطين أيضًا. لأجل ذلك، تتعرض هذه المجموعات إلى ضغط سياسي ونفسي كبير، ولا سيما من بيئة 17 تشرين.
إن لحظة وضع المقترع ورقته في الصندوق، هي نتاج عوامل عديدة أحدها الإعتقاد بإمكانية فوز مرشحيه، وهنا وجود لائحة موحدة يزيد من هذا الاعتقاد. لكن يتناسى بعض دعاة التوحد ان الانتخابات ليست عملية حسابية. لا يمكن ضم ناخبي مجموعة ما مع ناخبي مجموعة أخرى فقط بسبب توحدهما على اللائحة ذاتها. ان كان هذا الأمر ممكنًا ـ وتتقنه أحزاب السلطة جيدًا ـ إلا أنه يبدو مستحيلًا مع المجموعات السياسية الناشئة. ذلك أن مناصريها يحاسبونها على أي خطأ أو “خطيئة” بتحالفها مع شخصيات أو أحزاب إشكالية.
غير أن التشدد الفكري من دون النظر إلى توق الناخبين لظهور بديل سياسي قوي، يضع المجموعات الناشئة أسيرة نقاش داخلي لا يمكن الخروج منه سوى بإتباع منهجية علمية لمقاربة الإستحقاق الإنتخابي. فأن تضع مجموعات الفئة الثانية المضمون السياسي أولًا هذا أمر جيد وكفيل بإنتاج برنامج سياسي إقتصادي إجتماعي يعكس تطلعات اللبنانيين، وتبني مشروع لوائح إنتخابية من قيادات تنشأ عبر هذا العمل السياسي. غير أنه من المستبعد أن تستطيع هذه المجموعات القيام بهذا الدور بشكل كاف في جميع الدوائر الإنتخابية. من هنا، وبعد إستنزاف هذا المسار، لا بد لها من التفكير في سياق إنتخابي بعيد عن الطوباوية السياسية من خلال التشبيك والتنسيق مع مجموعات أخرى في الدوائر الإنتخابية التي لا تستطيع المبارزة بها. فمن لا أستطيع التحالف معه، يمكنني أن أتعاون معه في سبيل إفشال السلطة.
بالأمس القريب (إنتخابات 2018) أعطينا نموذجًا لا يقتدى به. علينا أن نعطي الأمل في العام 2022
بين هاتين الفئتين، من هو أهم وغير مرئي. يلعب بين هاتين الفئتين لأهداف جيدة في الشكل، خطيرة في المضمون. على المجموعات التنبه من السلطة العميقة، أي أصحاب المصالح الكبرى الذين يهابون المحاسبة مع علمهم بإنتهاء صلاحية السلطة القائمة من جهة، وهم يحضّرون أنفسهم للمشاريع القادمة للبنان أو لسوريا عبر لبنان تأمينًا لمصالحهم من جهة ثانية.
لقد زرعت هذه السلطة العميقة أذرعة لها في قلب الثورة منذ إنطلاق شرارتها الأولى تحت مسميات مختلفة، وأصبحت قاب قوسين من إنهاء دور المجموعات الثورية عبر عدة مسارات. أولًا عبر التسويق لإنتهاء العمل الجماهيري والتظاهرات والدعوة لقيام “معارضة سياسية” المقصود بها إستبدال الثوار بنخب سياسية من صنف السلطة نفسها. وما نراه من زيادة في الإستدعاءات الأمنية لـ”تهذيب” الثوار ليس بعيدًا عن هذا المسار. وثانيًا، وهو الأخطر، عبر بث مجموعة من الأفكار حول ضرورة تحالف الجميع كشرط لوصول الدعم والتبرعات، مدعين رغبتهم بوصول أكبر عدد من مرشحي الثورة إلى المجلس النيابي، فيما هم يعلمون جيدًا أنه من خلال هذا الطرح سيدفنون أي أمل لوصول أي وجه من وجوه الثورة إلى النيابة، بل سيقتصر التغيير على وصول نخب سياسية بسيطة ليست على خلاف معها.
بإختصار، كلما إقترب موعد الإستحقاق الإنتخابي، تكبر المسؤولية والتحديات. ليس خافيًا أن أهل السلطة يراهنون بالدرجة الأولى على عجز المجموعات المنتفضة على صياغة برنامج الحد الأدنى وبالتالي يراهنون على الشرذمة والتفتت في صفوفنا.. بالأمس القريب (إنتخابات 2018) أعطينا نموذجًا لا يقتدى به. علينا أن نعطي الأمل في العام 2022.