المَصَحَّة

قالت صديقةٌ مُقربةٌ تعمل أستاذةً جامعية، إن السائقَ الذي يتولّى قيادةَ عربتها، والذي اعتادت أن تُوكِل إليه بعضَ المهام الإضافية ثِقةً في أدائه واعتمادًا على حُسنِ تقديره؛ حزينٌ على غير طبعِه، صامتٌ منذ فترة. سألته عما به وألحَّت في السؤال؛ فأجابها بأن ولدَه الشاب الذي يُعاني عِلةً نفسية مزمنة، قد احتاج للحجزِ في إحدى المَصحَّات، وأن الأمرَ مُتكرر؛ لكنه ذهبَ به هذه المرَّة ثم عادا سويًا.

السَّبب أن الأسعارَ قد علت بصورةٍ غير مَعقولة. تضاعَفت وتضاعَف معها الهمُّ والعَجز. قال السائقُ إن المسئولين أخبروه بصدور لائحةٍ جديدة رفعت مصاريف الإقامة في المصحَّات الحكومية؛ بعدما كانت شِبه مَجانية. قيمةُ المَبيت بعد أن تُضافَ إليها المبالغُ الخاصة بالدواءِ والفحوصات اللازمة؛ لم تعد في مُتناول اليَد، صارت الكلفةُ في غير مَقدور الشَّخص مُتواضع الحال؛ وإذًا لن يتيسَّر للابن العلاج، ولن يتمَكن مِن الحُصول على الرِعاية اللازمة.

***

المَصحةُ اسمُ مكان مشتق من الفعل صَحَّ، ويشير إلى مَوضِع خاضع لإشراف طِبي؛ يتلقى فيه المَرضى علاجهم الفاعل من شتَّى العِلل، وقد اشتهرت من قديم مَصحَّةُ حلوان الخاصَّة بأمراض الصَّدر؛ أما الآن فذِكر كلمةِ “مَصَحَّة” يترك في الأذهانِ انطباعًا بأن القَّصد مُحدَّد في المُنشأة المُتخصّصة التي تساعد المريضَ على التعافي من الاضطرابات النفسيّة.

***

يُقال إن الصَّومَ مَصَحةٌ، والقَّصد أنه قادرٌ على إفادة الجسم وإعادة تنظيم بعضِ وظائفه، ومساعدته على التخلص من المواد الضارة. كلما كفَّ الواحد عن تناول الطعام؛ كلما أعطى جسدَه فرصةً لالتقاط الأنفاس، وكلما جاع وشعر بالقرصات تُوجِعه؛ كلما احترقت الدهونُ المُختزَنة واستُغِلَّت لإنتاج الطاقة، وفي هذه العملية الفسيولوجية مَردودٌّ إيجابيٌّ أكيد.

***

انتشرت في الآونة الأخيرة سلاسلُ مطاعم ومَحلَّات أغذية؛ تتفنَّن في وضع مُكونات عِدَّة عامرة بالسُّكريات، فوق بعضها البَعض. حملت الأصناف المُخترَعة أسماءً عجيبة وظهرت للمستهلكين في ثوب جذابٍ؛ وكأنها هديةٌ من السماء، لا سيما وقد جاءت أسعارها رخيصةٌ مقارنة بالكم؛ تُمني البطنَ بما يثقلها ويلبّي نداءَها دون أن تخدشَ الجيبَ كثيرًا، والحقُّ أن الإضافاتِ المُتعددة تفسِد الطعمَ وتعطلُ حاسَّة التذوق، فضلًا عن إرباكها المَعدة ودفعها بنسبة السُّكر في الدمّ إلى ارتفاعات هائلة، ولا يُسفر هذا وذاك في نهاية الأمر إلا عن اعتلال في الصِحَّة؛ قد يُفصِح عن نفسه سريعًا، وقد يتأجل ظهوره لمرحلة لا ينفع معها التزام، واللافت للانتباه أن هذه السَّلاسِل – برغم مخالفتها بعض القواعد – قد حظيت ببَسط يدّ الحماية والرعاية من المسئولين؛ بما زاد مُنتجاتُها رواجًا.

***

إذا طال الوقتُ بالباطلِ ظاهرًا مُتسيدًا لا يتنحى جانبًا ولا يسقط عن عرشِه؛ قيل في تمني زواله: “دوامُ الحالِ من المُحال”، فإذا تغيَّرت الأمور وانتصر الحقُّ وعَلت كلمتُه؛ قيل ابتهاجًا وتأكيدًا للحكمَة السابقة: “لا يصحُّ إلا الصحيح”، والمراد أن ثمَّة ناموسًا للحياة يكفل تعديلَ مسارِها وتقويمه، ومهمًا باءَت بالانحرافات والالتواءات؛ فإن الصَّوابَ يأتي في نهاية الأمر ليزيحَ الخطأ ويفرضُ وجودَه.

***

بعضُ المرَّات يكون انفعالُ المرءِ حادًا هادرًا؛ حتى ليخشى الآخرون من تداعياته المُفزِعة. يبذلون ما في وسعهم لتهدئته، يؤكدون أن شيئًا في الكَّون لا يستحقُ الإضرارَ بالنفس لأجله. يكرّرون لهذا الذي فقَدَ حلمَه وترك صَبره واستعر غضبُه: “صِحَّتك بالدنيا”، والأمل أن يستجيبَ إليهم قبل فوات الأوان.

***

العبَّاسية من أكبر وأقدم المصحَّات النفسية في المنطقة بأسرِها ولها تاريخٌ طويلٌ شيق؛ تحولت مبانيها في ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى خِدمة المَرضى بعدما ضاقت الأماكنُ الأخرى بهم، وكانت من قبل قصرًا عظيمًا فخمًا، ولم تزل تحوي إلى يومنًا هذا فتحاتٍ عدَّة في الأرض؛ يَحكي العارفون وقدامى العاملين إنها لسَراديب طويلة مُمهَّدة، تُفضي بسالكيها إلى القلعة؛ تحسبًا لوقوع ما يَستدعي الهَرب.

***

كثير المُلصَقات المَوضوعة على زُجاج عربات النقل العام، يحمل كلمتين: الصِحَّة والسَّتر، أما الصِحَّة؛ فحفظها أمسى أمرًا صعبًا في ظلّ التلوث الشديد الذي نعانيه، بالإضافة لتراجُع القُدرة الشرائيَّة على تناول الطعام المُعتدِل المفيد أو على الأقل مَحدود الضَّرر، وتعذُّر مُمارسة الرياضة في أماكن مناسبة بالنسبة للغالبية العظمى من الناس، وأما السَّتر؛ فقد تبخَّر على خلفية سياسات اقتصادية غير رشيدة؛ أعطت الأولويةَ للمَظاهِر البرَّاقة الزائفة وأغفلت الضرورات.

***

المستشفى مرادف للمَصحَّة؛ مُفردةٌ مشتقة من الفعل يَستشفي، والمَصدر استشفاء. عادة من نستخدم الكلمة بوفرة، فهي أقرب للِّسان والذِّهن أيضًا، المستشفيات كثيرة؛ لكن أشهرها وأكثرها ذيوعًا في نشرات الأخبار والتغطيات العالمية؛ هي تلك القابعة على أرض فلسطين، تستقبل الجرحى والقتلى، وتقاوم فجورَ العدو وغدرَ الصديق.

***

بتنا نحفظ أسماءَ المستشفيات الصامدة في غزَّة؛ كمال عدوان، المعمداني، الشفاء، وغيرها الكثير. دُكَّت أركانُها أكثرَ من مرَّة، سَقط بين أروقتها مُصابون جُدد، فقدت أجزاءً كبيرةً من أبنيتها ومُقوماتها الأساسية، تحوَّلت إلى أمكنة خطرة بدلًا من أن تكون مناطق مَحمِيَّة، والحال أن صمتَ الحكوماتِ العربية بل وتواطؤ بعضها وشَراكته مع العدو؛ قد ألحق بالمقاومة ضررًا لا ينكر، والحقُّ أن أحدًا على وجه الأرض -سوى حكومة المُحتَل- لم يتصوَّر مثل هذا التقاعس والخذلان الذي يرقى إلى أوصافٍ يأنف القلمُ نقشها، فإن نقشها؛ عجز الرقيبُ عن إغفالها، فإن أغفلها؛ عجز القارئُ عن القيام بما يُبددها أو يغيرها ويُصلِح الحال.

إقرأ على موقع 180  زيارة بايدن للسعودية.. خطأ في التوقيت والحسابات

***

يتناقل الناسُ أنباءً كثيرة حول بَيع البنايات القديمة في مَنطقة وسَط المدينة لمُستثمرين غُرباء، فإن صَحَّ الكلامُ كان الأمر على قدرٍ من الخطورةِ والاستفزاز. اعتدنا أن نرى الدخانَ وأن نتساءلَ عن وُجود النار، وأن نُهدِرَ الوقتَ في مُحاولةِ التثبُّت منها، ثم إذا بها مُجسَّدة أمام أعيننا؛ حقيقة واقعة لا يُجدي معها صراخٌ ولا اعتراض ولا حتى توسُّل. كتبَ أشخاصٌ ذوو شأنٍ ومكانة عن الأمر، قالوا إن تجريفَ التاريخ عملٌ مُشين يُدين القائمين عليه ويلوث صفحتهم؛ لكن الصَّوتَ الحرَّ يذهب هباءً في صحراءِ العبث، ولا بديل عن المواجهة بفعلٍ مُكافئ.

Print Friendly, PDF & Email
بسمة عبد العزيز

طبيبة وكاتبة مصرية

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  إيران من "الصبر الإستراتيجي" إلى "المواجهة الإستراتيجية"!