قرر رئيس الوزراء مناحيم بيغن تعيين الجنرال آرييل شارون وزيرا للدفاع في الخامس من أغسطس/ أب عام 1981. كان بيغن يُكن إعجاباً شديداً بشارون وكان يعتبره “استراتيجياً دولياً” برغم عدائيته ورفضه الانصياع للأعلى منه. ينقل الكاتب بيرغمان عن بيغن قوله قبل عامين من تعيينه شارون وزيرا للدفاع: “شارون يُمكن ان يُهاجم الكنيست بالدبابات”. اعتبر بيغن ان شارون هو الشخص المناسب ليشرف على عمليات الانسحاب من شبه جزيرة سيناء بموجب اتفاقية السلام الموقعة مع مصر (كامب ديفيد). هذه المهمة نفذها شارون على اكمل وجه من دون إراقة نقطة دم على الرغم من التظاهرات العنيفة التي نفذها المستوطنون وبعض قوى اليمين المتطرف، لكنه في الوقت نفسه استخدم نفوذه وقوة موقعه من اجل بناء المزيد من المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة المصنفين حينها في خانة الأراضي المحتلة، من دون ان يأبه للملاحقات القضائية بسبب ذلك. كما انه غرس في وزارة الدفاع والمؤسسة العسكرية روح المشاكسة.
مع شارون في وزارة الدفاع، كان رافائيل ايتان مستشارا لرئيس الوزراء لشؤون مكافحة الإرهاب ورئيساً لجهاز “لاكام”، وهو جهاز تجسسي تابع لوزارة الدفاع ويتعامل بشكل أساسي مع التكنولوجيا العسكرية، وكان ايتان قد خدم تحت أمرة شارون في لواء المظليين في الخمسينيات وكان الرجلان يتشاركان الرأي في الاهمية القصوى لضرب منظمة التحرير الفلسطينية في قواعدها داخل لبنان، فأعطيا الأوامر لضباطهم باعداد الخطط لحملة عسكرية كبيرة لتحقيق هذا الهدف.
وينقل بيرغمان عن افراييم سنيه، احد كبار ضباط المنطقة الشمالية في الجيش “الإسرائيلي”، قوله “لقد جرى تمرير خطط شارون الينا تدريجيا وببطء شديد. في البداية أمرنا باعداد خطة اختراق عسكري محدود في لبنان ولاحقاً كشف لنا انه يريد خرائط لغزو واسع للبنان يصل الى طريق بيروت دمشق”. وينقل أيضا عن ديفيد اغمون رئيس اركان المنطقة الشمالية قوله ان شارون طلب منهم في وقت لاحق اعداد خطط لاحتلال كل لبنان وأجزاء من سوريا ونقل عن أفراييم سنيه قوله “كان واضحاً لنا اننا لا نعلم كل شيء وان حكومتنا تعرف اقل مما نعرف”.
فيليب حبيب أوضح للمسؤولين “الإسرائيليين” ان بلاده ستدعم أي غزو للبنان فقط في حالة الرد على استفزاز جدي من منظمة التحرير
ويقول بيرغمان ان شارون كان يعلم ان “إسرائيل” لا يمكنها بكل بساطة ان تغزو لبنان وتحتل جزءاً من أراضيه. ففي يوليو/ تموز عام 1981 ارسل الرئيس الأميركي رونالد ريغان مبعوثه الخاص الى الشرق الأوسط فيليب حبيب للتوسط من أجل التوصل إلى إتفاق لوقف اطلاق النار بين “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية على الساحة اللبنانية. عارض شارون وايتان بشراسة الاتفاق الذي لم يتضمن امتناع منظمة التحرير عن مهاجمة اهداف “إسرائيلية” في الأراضي المحتلة وفي أوروبا. بالنسبة إلى شارون كان رمي قنبلة يدوية على كنيس يهودي في فرنسا بمثابة خرق لوقف اطلاق النار بالإضافة الى ان بيغن وشارون كانا يعتبران ياسر عرفات مسؤولاً عن أي عمل ينفذه الفلسطينيون في أي مكان في العالم حتى ولو كان المنفذون تابعين لمنظمات لا تنتمي إلى منظمة التحرير الفلسطينية ولكن العالم الخارجي لم يشارك “الإسرائيليين” رؤيتهم هذه وفيليب حبيب أوضح للمسؤولين “الإسرائيليين” ان بلاده ستدعم أي غزو للبنان فقط في حالة الرد على استفزاز جدي من منظمة التحرير.
يتابع بيرغمان ان شارون كان يعتبر، وكان محقاً في اعتباره، ان كل يوم يمر مع السلام الناجم عن وقف اطلاق النار يعطي عرفات وجماعته فرصة ثمينة لتعزيز مواقعهم في لبنان وتحسين انتشارهم العسكري، لذلك قرر ان يُسرّع الأمور من اجل تحقيق خطته عبر تفعيل نشاطات الوحدة السرية التي كان يقودها مائير داغان من داخل المنطقة الشمالية وإسمها “وحدة منطقة جنوب لبنان”. يقول سنيه هنا “كان الهدف الموضوع امام هذه الوحدة في المرحلة الثانية من عملها هو زرع الفوضى في مناطق نفوذ الفلسطينيين في صور وصيدا وبيروت من اجل إيجاد أرضية صلبة تبرر لإسرائيل غزو لبنان”. وارسل شارون الضابط ايتان ليكون مبعوثه الخاص وعيّنه في قيادة المنطقة الشمالية.
في شهر ديسمبر/ كانون الأول عام 1981 وقع 18 انفجاراً (سيارات او دراجات هوائية او نارية او حتى حمير كلها مفخخة) قرب مقرات لمنظمة التحرير او داخل المخيمات الفلسطينية مما تسبب باعداد كبيرة من الضحايا
في منتصف سبتمبر/ أيلول عام 1981 حصلت بصورة منتظمة عمليات تفجير سيارات مفخخة في الاحياء الفلسطينية في بيروت وبعض المدن اللبنانية الأخرى وانفجرت احدى تلك السيارات في الأول من اوكتوبر/ تشرين الأول في حي الفاكهاني في بيروت ما أدى الى مقتل 83 شخصاً وجرح 300 اخرين من ضمنهم عدد من النساء علقن بنيران اشتعلت في مصنع للملابس كن يعملن به وتملكه منظمة التحرير الفلسطينية، كما انفجرت سيارة أخرى في مدينة صيدا قرب احد مقرات منظمة التحرير ما أدى الى مقتل 23 شخصا. ويقول بيرغمان انه في شهر ديسمبر/ كانون الأول عام 1981 وقع 18 انفجاراً (سيارات او دراجات هوائية او نارية او حتى حمير كلها مفخخة) قرب مقرات لمنظمة التحرير او داخل المخيمات الفلسطينية مما تسبب باعداد كبيرة من الضحايا.
يقول الكاتب عن تلك المرحلة: فجأة ظهرت في لبنان منظمة جديدة حملت اسم “جبهة تحرير لبنان من الغرباء” تولت اعلان مسؤوليتها عن كل عمليات التفجير التي كانت تحصل. حينها، يقول الكاتب، كانت العبوات الناسفة توضب في أكياس مسحوق الغسيل “اريال” حتى اذا ما تم توقيف الشحنة على حواجز الطرقات كان يبدو للناظر انها شحنة بريئة لمسحوق الغسيل، وكان الإسرائيليون يكلفون في بعض الأحيان نساء عميلات لقيادة السيارات المحملة بالمتفجرات لإبعاد الشبهة. ويتابع الكاتب قوله ان عمليات اعداد السيارات المفخخة كانت تتم في مقر العمليات الخاصة للجيش الإسرائيلي وحينها بدأ للمرة الأولى استخدام الجيل الأول من الطائرات من دون طيار التي كانت مهمتها ان تطير فوق الهدف وترسل شعاعاً نحو العبوة المزروعة ما يؤدي الى انفجارها. وكان احد العملاء يتولى قيادة السيارة المفخخة الى الهدف المحدد تحت المراقبة الجوية او الأرضية (عبر عملاء ميدانيين) وعندما يركن السيارة ويتركها ويحدد المراقبون اللحظة المناسبة التي ينتظرونها يتم الضغط على الزر لتنفجر العبوة (أو ترسل الأشعة من الجو نحو العبوة المزروعة).
يضيف الكاتب ان شارون كان يريد من هذه العمليات إستفزاز عرفات ودفعه للقيام باي عملية إنتقامية ضد “إسرائيل”، ما يشكل ذريعة للرد بغزو لبنان، او على الأقل ان يقوم عرفات بالرد عبر ضرب حزب الكتائب اللبنانية الحليف لـ”إسرائيل” مما يدفع “إسرائيل” لارسال قوة عسكرية كبيرة تحت عنوان “حماية المسيحيين”. واخذت “جبهة تحرير لبنان من الغرباء” تشن هجمات على مواقع تابعة للجيش السوري في لبنان حتى انها أعلنت مسؤوليتها عن عمليات (لم تحصل) ضد وحدات “الجيش الإسرائيلي”، وينقل الكاتب عن مائير داغان قوله “لم يكن لنا ابدا اية علاقات بنشاطات ضد قواتنا، ولكن هذه الجبهة أعلنت مسؤوليتها عن هكذا نشاطات لتعطي مصداقية لعملها ضد كل القوات الغريبة في لبنان”.
عميل لـ”الموساد”: “لقد رأيت عن بعد كيف ان انفجار سياسة مفخخة قد أطاح بشارع كامل برمته. كل شيء رأيناه لاحقاً من هجمات حزب الله نابع مما رأوه يحصل من خلال عملياتنا ضد أهلهم”
وينقل رونين بيرغمان عن احد عملاء “الموساد” قوله عن تلك المرحلة “بدعم من شارون قمنا باعمال رهيبة، انا لست نباتيا (يقصد انه لا يدعي البراءة) وانا دعمت وشاركت في عمليات اغتيال عدة نفذتها “إسرائيل” ولكن نحن هنا نتكلم عن عمليات قتل جماعي من اجل القتل فقط وذلك لزرع الفوضى.. فمنذ متى بتنا نرسل الحمير المحملة بالمتفجرات لتفجيرها في الأسواق المكتظة؟” وينقل الكاتب عن عميل آخر لجهاز “الموساد” عمل في لبنان في تلك المرحلة قوله “لقد رأيت عن بعد كيف ان انفجار سياسة مفخخة قد أطاح بشارع كامل برمته. كل شيء رأيناه لاحقاً من هجمات حزب الله نابع مما رأوه يحصل من خلال عملياتنا ضد أهلهم”.
ينقل بيرغمان عن مائير داغان قوله “أنا على استعداد لذرف الكثير من الدموع على قبر لبناني قتل بسبب مهمة كلفناه بها طالما ان ذلك يمنع تهديد حياة أي يهودي بالخطر”، ويضيف “يمكن ان تعطي العبوة لشخص وتقول له فجّرها قرب احد مقرات منظمة التحرير، ولكن لهذا الشخص حساباته الشخصية أيضاً، وهو يحمل عبوة الآن، ففي بعض الأحيان هذا الشخص ولحسابات شخصية يقرر ان يفجر العبوة في مكان آخر، ماذا علينا أن نفعل”؟
يتابع الكاتب ان ياسر عرفات قدّر جيدا ان شارون يحاول دفعه للقيام بعمل ما يشكل خرقاً لاتفاق وقف اطلاق النار فيقوم بغزو لبنان لذلك فقد قام عرفات بجهد جبار لعدم حصول أي شيء يبرر لشارون تنفيذ خطته، حتى ان عرفات نجح في لجم اية محاولة للقيام باعمال عنف في المناطق الفلسطينية المحتلة. ومع ذلك، فقد أعاد شارون عرفات الى لائحة المطلوب قتلهم والتي كان ازيل منها بعد القاء كلمته على منبر الأمم المتحدة عام 1974.
(*) في الحلقة المقبلة: محاولة جديدة لإغتيال عرفات وانطلاق عملية غزو لبنان