ركائز أو “حقائق” عامة:
أولاً؛ يعاني لبنان من أزمة نظام سياسي، فأزمة طبقة من الفاسدين فتدخل خارجي علني وظاهر (بغّض النظر عن ترتيب الأزمات وأيهما يستولد الآخر). تاريخياً كانت أميركا ترعى ولادة الأنظمة لتبقيها مستتبعة وتجهد لتثبيت طبقة سياسية تتشاطر معها مصالح عميقة، بالمقابل تمعن هذه الطبقة السياسية في استغلال النظام وترسيخ الاستزلام لها، ثمّ تعاود أميركا (والغرب) إبتزاز الدولة والمجتمع عبر الطبقة نفسها في تواطؤ وتخادم متبادلين.. وتبقى الأمور تدور في هذه الحلقة المقفلة!.
ثانياً؛ جديد لبنان اليوم هو أنّ الحلقة المفرغة تقترب من أن تُكسر بفعل تداخل عدّة عوامل ذاتية وخارجية، فالسلطة تعاني أزمة توزيع القيم، والطبقة السياسية التقليدية تعاني أزمة شرعية ـ وليس قانونية – ودولة انكشفت اقتصادياً وتحولات خارجية تخلق قلقاً عميقاً عند المراهنين على الغرب، أما جديد المشهد فهو بروز قوى دافعة وازنة ومريدة تعمل من خارج هذه الحلقة المقفلة و”براغماتياتها” تتقدم الى وسط الساحة الداخلية بعد أن كانت تطل على الواقع الداخلي من “حدوده” أو من على “الشُرفة”! هذه العناصر مجتمعة تدفع للقول بحقيقة أن الدائرة المقفلة بدأت تفتقد قوة شّد أواصرها وتتحلل تدريجياً.
ثالثاً؛ هناك تحولات عميقة أصابت المجتمع اللبناني وديناميات جديدة تتولّد وتفرض نفسها تباعاً وأفكاراً تتجاوز قدرة الدولة على الاستجابة ما يعني أن التحول وقع، فالفكرة الصاعدة هي المولّدة لأي تحوّل لاحق وهي بدايته.. فكيف الحال اليوم أنّ لبنان المجتمع بات أبعد ما يكون عن لبنان “النظام المأزوم”، ولبنان السلطة المبعثرة الغاية والقوّة، ولبنان التباين في توزيع القيم من قبل الدولة.
رابعاً؛ برغم ما يبدو للوهلة الأولى من أنّ لبنان اليوم يدور في حلقة مقفلة، ودورات أشبه بحركة حلزونية هبوطية، لكن الناظر إليها بتأنٍ يرى الأمور نسبية، لأنّه مع الحركة النزولية الهابطة التي يعيشها البلد، يلاحظ بالآن ذاته اتجاه قوي لقوة مجتمعية تتلاقى رؤاها من تحت سطح الأزمة وقشرتها وتبدل قسري لقوى أخرى، حتّى لو أنّ معالمها الكلية وهندستها لم ترتسم بعد.. وحتّى لو أنّ الصيغة الانتقالية لم تنضج بعد! لكن لنا أن نذكر أن الغموض في العملية الانتقالية هو سرّ معنى الدارسات الإنسانية والمجتمعات وعمليات التغيير والتحوّل وكيفياته التي أحياناً كثيرة ما تكون غير متوقعة.
إنّ دولاً كالسعودية وسوريا أصبحت مشغولة بأولوياتها وحماية أمنها، وأيضاً مصر، ناهيك عن تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة. لذلك، لا يمكن أن يُقارب لبنان من دون رؤية لأمن عربي شامل ما زال بعيد المنال، وإذا ما امتلك العرب ذلك، فليس لديهم قدرة لتفعيل تصوراتهم وترجمتها عملياً
خامساً؛ لبنان اعتاد أن يولّد مشكلات للخارج وأن يجتذب مشكلات الخارج إليه، لكنّ هذه المعادلة تسقط تباعاً مع التغيرات في موازين القوى والتحّول الذي يصيب منظومة القيم السياسية التي تحكمه خصوصاً مع بروز حالة المقاومة بتحالفاتها ورسوخ نموذجها وتمددّه ـ على مُكثٍ -، فتباعاً يلاحظ صعوبة عند الخارج في دفع مشكلاته إلينا، ولم يعد الخارج أيضاً يحتمل استدراجه إلى مشكلاتنا، فتراه هو ينوء بأحماله وتحدّياته الثقيلة! وهذا جديد في تاريخ بلدنا السياسي.
سادساً؛ غياب الراعي الخارجي؛ فللمرة الأولى منذ عقدين ونيّف يغيب راعي التوازنات ومزّيت التروس عن المشهد، ويبقى لبنان وبعض قواه في صراع تفاسير وصراع أدوار وأفهام، ولذلك تجهد القوى التقليدية لترسيم الموازين (التقليدية والكلاسيكية، أي تلك التي نشأت من داخل السيستيم)، فتراهم يجدّون بالاشتباك للوصول الى نقطة توازن جديدة لا يبدو أنّ الأطراف اهتدت إليها حتّى اللحظة.
سابعاً؛ لا يمكن أن تُقارب المسألة اللبنانية مقاربة آحادية فحسب أو لنقل مقاربة بعين داخلية فحسب بل تحتاج لمقاربة موازية ترتبط بمدى تأثر لبنان بنظرة أميركا إليه وانتظاراتها منه وحاجتها اليه، لكن كي لا نذهب بعيداً في الأماني والتوقعات، فلا بأس أن نأخذ بواقعية وعلمية حدود القدرة الأميركية اليوم لا سيّما مع تضعضع الأدوات، وأن نأخذ بالاعتبار حدود طاقة لبنان الحالي والمرهق في بنائه كمؤسسات لملاقاة الأميركي، وأيضاً حدود الانغماس الأميركي في المنطقة برمتها وليس فقط في لبنان.
ثامناً؛ تميز العقدان الأخيران في الإقليم بإنتصار خيار المقاومة، على غير ما اعتادته المنطقة تاريخياً، (للتذكير؛ تاريخياً خسرت دول وحركات المقاومة برعاية الرئيس جمال عبد الناصر معركتها في مواجهة السعودية والعدو “الإسرائيلي”).. أمّا اليوم، فالكيان الصهيوني والسعودية وحلفاءهما خسروا جولة تاريخية امتدت لعقد وأكثر على رقعة شطرنج الإقليم.. وهذا جديد في المشهد الإقليمي خصوصاً أنّه يترافق مع تحولات دولية تصيب العالم وتحولات أصابت أميركا وسياساتها الخارجية ومحددات هذه السياسة في الإقليم.
تاسعاً؛ إنّ دولاً كالسعودية وسوريا أصبحت مشغولة بأولوياتها وحماية أمنها، وأيضاً مصر، ناهيك عن تراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة. لذلك، لا يمكن أن يُقارب لبنان من دون رؤية لأمن عربي شامل ما زال بعيد المنال، وإذا ما امتلك العرب ذلك، فليس لديهم قدرة لتفعيل تصوراتهم وترجمتها عملياً.
عاشراً؛ “إسرائيل” تتخبط داخلياً وتعاني من فشل ذريع خارجياً وأصبحت غير قادرة على إحداث تغييرات مهمة في البيئة الخارجية ولا تمتلك كيفيات لذلك وهي تنتقل من دور “المطاوع” في الإقليم إلى “حماية الذات” بأحسن الأحوال.
إنّ أيّ قوة مهما بلغت لا تستطيع أن تحكم لبنان بمفردها. كما أنّه لا يمكن أن يتّم التغيير على الطريقة الثورية ولا بالانقلابات العسكرية. وتبقى المقاربة التوافقية حاجة حتّى لو كانت نتائجها بطيئة
حادي عشر؛ إنّ إيران “الدولة الرابحة” اليوم تراها غير مستعجلة في حركتها، فمسارها ثابت ورهاناتها الكبرى والاستراتيجية تتحقّق قدماً وتترسّخ. هي تعرف أنها باتت أكثر تأثيراً في المعادلات الدولية فضلاً عن الإقليمية، وتنتظر عروض التفاوض من موقع القوي، وجاهزة لكسر أي حصار كما أنّها جاهزة أيضاً للتفاوض بالنار إذا عاود وفكر أعداؤها بذلك.
ثاني عشر؛ ستبقى نظرة أميركا إلى لبنان من منظور أمن “إسرائيل” وبالتالي من منظور إضعاف حزب الله، وبالتالي، لا شيء ثابتاً بالنسبة للأميركيين غير ذلك. لا شيء! لا حليف لبنانياً ولا استحقاق قانونياً ودستورياً ولا أسلوباً ولا طريقة. الأميركي يزداد قلقاً من إزدياد حضور حزب الله وشرعيته السياسية من بوابة السلطة ومؤسساتها إلى جانب شرعيته الوطنية كمقاومة.
ثالث عشر؛ إنّ أيّ قوة مهما بلغت لا تستطيع أن تحكم لبنان بمفردها. كما أنّه لا يمكن أن يتّم التغيير على الطريقة الثورية ولا بالانقلابات العسكرية. وتبقى المقاربة التوافقية حاجة حتّى لو كانت نتائجها بطيئة.
رابع عشر؛ الكباش يزداد والنزاع الصامت ـ أو غير العالي الوتيرة- بين الولايات المتحدة والخط المقاوم في لبنان يتخذ شكل الصراع بالنقاط وليس بالضربة القاضية ويتداخل فيه الخارجي بالداخلي، لذلك نلاحظ أن السياسة الأميركية تتسم بالتخّبط والتذبذب والانتظار والترّيث والتردد.. فالضغوط التي سعت إليها واشنطن، وبرغم شدّتها، أدخلت حزب الله في مكان ما الى مجالات وساحات كانت مقفلة عليه، فبات اليوم يخوض الصراع فيها كميدان جديد.. ويمكن القول إنّ حزب الله بات يقاتل على ملعب الآخرين المالي الاقتصادي ومحّل ارتكازاتهم التاريخي الخ.. وهذه نقطة تقدّم غير منظورة توفّرت لحزب الله، برغم ندوب المعركة وجراحاتها.
خامس عشر؛ إنّ نقاط القوة التي بحوزة “حزب الله” وحلفائه كبيرة جداً برغم الضغوط التي يعاني منها البلد وشعبه ويمكن أن يفّعلها في لحظة ما (تبدأ من صراعه مع العدو “الإسرائيلي”.. ولا تنتهي بقدرته على إحداث توازن ضغط مع خصومه في الإقليم إذا ما تألّم بالفعل).
ركائز آنية ومباشرة:
- إنّ خطوات أميركا تتسم بالحذر الشديد وأيضاً خطوات حزب الله، فأي من الطرفين لا يريد أن يعطي الآخر ذريعة تامة تمكّن خصمه من التقدّم أو احداث نقلات جيوسياسية أو شاملة.
- لا يبدو أنّ أيّاً من القوى الخارجية يريد تفجير لبنان بقرار – ولا حتى الأميركي – لحسابات ومصالح ليست خافية! لكنّ احتمالية إنفجار شعبي مفاجئ تزداد، وحال وقوعها ليس بالضرورة أن يلزم حزب الله نفسه بنفس مقاربة ما بعد 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.
- الوقائع قد تأخذ لبنان الى انفجار اجتماعي مفاجئ يكون ما قبله غير ما بعده، وأي مسار جديد يفترض أن يلحظ توازن القوى المحلية والإقليمية والتحوّلات الدوليّة.
- اللعب على وقت الفراغ وتقطيع الوقت سيّد الموقف حتّى حين، لكنّ اقتراب موعد الإنتخابات النيابية مقلق، فالفاسدون مضطرون لمنع السقف من الانهيار عليهم دون أن يتنبّهوا إلى أنّ الأرض من تحتهم هي التي تهتز.
- إنّ الشعب قد اكتسب وعياً وأصبح أعمق غوراً وحنقاً وكذلك أكثر خبرة لكيفية التعاطي الفعال مع الطبقة الفاسدة، كما صار أكثر وعياً وأشد حذراً من الانزلاق في أجندات أميركا بوجه حالة المقاومة، كما حاول الأميركيون ما بعد 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.
التحول المطلوب هو مسار يبدأ بقانون انتخاب على أساس النسبية ووفق دوائر المحافظات الخمس، ولوائح انتخابية تخاض على أساس برامج اقتصادية وسياسية واجتماعية واضحة وعلنية
المخارج والحلول:
إزاء كل هذه الركائز والوقائع أو الحقائق الحاكمة.. هل من أفق ومخرج وحلول؟
برغم أنّ الإجابة بالغة الصعوبة في ظل مشهد داخلي لبناني يتّسم بالتسارع والسيلان، لكن عند النظر إلى الأوسع، أي الإقليمي، ترتسم ملامح مسار من الاستقرار وفقاً لقواعد جديدة بعد أن تحددّت بالنار والردع موازين القوى وانكفأت الأطراف بحثاً عن طريق للاستمرار والحفاظ على ما تبقى من نقاط.
وإلى أن تتضّح معالم الخارج وتسوياته وقواعد الإقليم الجديدة، ومدى انعكاساتها على لبنان، ما هي السيناريوهات التي تنتظرنا وكيف نتجنّب الخطر المحدق، ونشّق طريقنا الى الأمام ونجّد للبحث عن حلول؟
يمكن اقتراح منهج بخطين أو سكتين.. إذا أردنا ألا نعيش أمل انتظار الخارج وربط مستقبل بلدنا بالتسويات الإقليمية والدولية ومآلاتها، أي إذا أردنا أن نحرر بلدنا وإرادتنا من حسابات الخارج.
أولاً؛ علينا أن نُفَكّر من خارج المشكلة وليس من داخلها إذا ما استعصت وكادت أن تنفجر، كما يتوقع اليوم. إنّ الدول أنشئت من أجل الشعوب وتأمين حياتها الكريمة وتقدمها واستقرارها وأمنها وحين يتعّذر ذلك، فلن يكون أمام الشعب بقواه كلها إلاّ الاستعانة بالأصدقاء شرط أن تكون المساعدة لكل لبنان.. وليبادر من يتطلع إلى بقاء هذا الوطن وديمومته، وليوّظف كامل علاقاته ونفوذه شرقاً وغرباً لاستنقاذ لبنان بكل فئاته وأهله، لكن أفترض أن ذلك سيكون مرهوناً بتقدير لحظة “التهديد الوجودي” الذي قد يطال لبنان ومجتمعه والذي علينا أن نرصده بدقة عالية.
ثانياً؛ علينا أن نعمل من قلب البنية ـ الدولة – واستعصاءاتها وتعقيداتها مهما كبرت، فالتحول المطلوب هو مسار يبدأ بقانون انتخاب على أساس النسبية ووفق دوائر المحافظات الخمس، ولوائح انتخابية تخاض على أساس برامج اقتصادية وسياسية واجتماعية واضحة وعلنية، وبالتزامن، إعلان قرار تاريخي لولادة مجلس قضائي جديد يضع تصوراً لعدالة انتقالية تجمع بين المصلحة الوطنية وحقوق الناس والدولة.
ماذا لو حدث الإنفجار الشعبي؟
لا أحد يمتلك الإجابة الوافية، لكن لكل حادث حديث، مع تغليب الظّن أنّ المكسب الأكيد الذي سيحقّقه اللبنانيون ساعتئذ سيكون “التخّلص من النظام الاقتصادي ومفارقاته القاتلة الذي جثا على صدورهم لعقود”، وهذا انتصار كبير للبنان الجديد في ما لو حدث، وأحياناً لا تولد الأحداث إلا بمخاضات.
هكذا منهج، يعطي ضمانة ويؤمن مدخلاً لانفراج يحدّ من الاحتقان الخطير القائم ويُحدث بداية انتقال في الأداء والإدراك السياسيين، ويُبعد عن لبنان الكأس المرّة التي تصيبه عند كل مفترق وإزاء كل محطة دستورية أو تحول إقليمي أو دولي، وإلاّ فإنّ البديل سيكون انفجارات متلاحقة يستغلها الخارج أخطر استغلال، فتكون خسارة لجميع الهاربين من مواجهة الحقائق وتكون قبل كل شيء خسارة للبنان الوطن النهائي ولأبنائه وشبابه أولاً وآخراً!