“(…) من عدة أشهر، كان ترشيح السيد إبراهيم رئيسي، المولود في مشهد قبل 60 عامًا والمقرب من المرشد علي خامنئي، أمراً بديهياً. ليس من المؤكد أن لرجل الدين هذا صفة “حجة الإسلام” أو “آية الله” لأنه قضى كل مساره المهني داخل النظام القضائي وليس في المدارس الدينية. تمكن مع ذلك رجل الجهاز هذا، والنشط والماهر بصفة خاصة، من كسب انتخابه عام 2019 في منصب نائب رئيس “مجلس خبراء القيادة” الذي يتكفل بانتخاب المرشد.
تكمن نقطة قوة رئيسي في تعيينه عام 2016، من قبل المرشد الأعلى، كرئيس لمؤسسة “آستانه قدس رضوي”، وهي مؤسسة غنية جدًا ومؤثرة ومحترمة وقوية، تدير مرقد ومزار الإمام الرضا بمشهد. ويمنح له هذا الموقع سلطة دينية واجتماعية واقتصادية ووطنية لا مثيل لها. فنعته بـ“المحافظ” تبسيط مبالغ فيه لتوصيف الأفكار السياسية لذاك الذي يشغل منصب رئيس السلطة القضائية منذ عام 2019. ويبدو أن عمله ضد الفساد كان فعليا، فضلاً عن عدم رغبته في حجب الصحافة والشبكات الاجتماعية. أما على المستوى الدولي، فهو يدعم نهجا واقعيا حذرا لمرافقة الرفع المحتمل للعقوبات الأميركية، لكنه يرفض قواعد الشفافية المالية لمجموعة العمل المالي (GAFI) التي تعد ضرورية للاندماج في السوق الدولية. وهو يدرك بأن خطاب “المقاومة” ضد الولايات المتحدة أو “العدوان الثقافي الغربي” أو إسرائيل – وهو خطاب عزيز على رجال الدين والفصائل المحافظة – لم يعد كافياً، لكنه لن يتخلى عنه.
بالطبع تسير هذه “البراغماتية الحداثية” جنبًا إلى جنب مع قناعات راديكالية بخصوص مكانة المؤسسة الدينية في قيادة الحياة السياسية والقواعد الاجتماعية الإسلامية كما تعاش في مدينة مشهد، وهي ثاني مدينة إيرانية والمدينة المقدسة للشيعة (في العالم). ولكن هناك لطخة جد قاتمة في الصورة، فعندما كان المُلا شابا، شغل لفترة منصب مدع ثوري عام، وكان بالتالي أحد المسؤولين عن المجزرة التي وقعت في السجن عام 1988 والتي راح ضحيتها الآلاف من المعارضين اليساريين، خاصة من تنظيم “مجاهدي خلق”.
من يتكفل بالانفتاح الاقتصادي؟
يتوقع الجميع في طهران أن المفاوضات التي بدأت في أبريل/ نيسان 2021 في فيينا بين إيران والقوى الكبرى الست، ستنجح بسرعة في إعادة تفعيل الاتفاقية النووية لعام 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) ورفع الحظر الأميركي. وقد تهكم حسن روحاني يوم 9 يونيو/ حزيران على كون جميع المرشحين ينتقدون عهدته، ولكنهم يدافعون عن خطة العمل الشاملة المشتركة. بتمزيقه للاتفاقية النووية، منح دونالد ترامب مهلة للمحافظين الذين تمكنوا من تقوية موقعهم من خلال تحميل الفشل إلى الرئيس روحاني والاستعداد بشكل منهجي للبقاء في السلطة. أدرك معسكر المحافظين جيدا أن البلاد ستدخل لا محالة في نظام جديد لموازين القوى مع التنمية الاقتصادية في الداخل والانسحاب الأميركي من المنطقة والتطبيع المحتمل مع المملكة العربية السعودية.
كما يضيف تعيين مرشد أعلى جديد للثورة في حال وفاة علي خامنئي، وضعا من عدم اليقين المؤسساتي إلى هذه التغييرات الجوهرية. بالنسبة لكل من مكونات النخب الثلاث التي تتقاسم السلطة – رجال الدين، قدماء محاربي الحرس الثوري، والتكنوقراط الإسلاميين-، يكمن الرهان إذن في معرفة من الذي سيتولى إدارة ومراقبة واستعمال والاستفادة من هذه المرحلة التاريخية الجديدة.
من الذي سيتكفل بإدارة التطبيع مع الولايات المتحدة وشبه الجزيرة العربية؟ يتعلق الأمر هنا على الخصوص بمن سيتولى إدارة الشفافية المالية للأنشطة المصرفية التي تفرضها مجموعة العمل المالي (GAFI) على التجارة الدولية. كيف يمكن الكشف عن الممتلكات غير المشروعة المتراكمة على مدى عقود؟ وهذه التوترات تزداد حدة لأن نفس الأشخاص يتقاسمون السلطة منذ أكثر من 40 عامًا. فكل واحد يعرف أسرار الآخرين وصفاتهم وتنافسهم وظلالهم. فالمعركة السياسية ليست بين مؤيدي ومعارضي الجمهورية الإسلامية، بل بين جميع مكونات السلطة القائمة.
نعت إبراهيم رئيسي بـ“المحافظ” تبسيط مبالغ فيه.. ويبدو أن عمله ضد الفساد كان فعليا، فضلاً عن عدم رغبته في حجب الصحافة والشبكات الاجتماعية. أما على المستوى الدولي، فهو يدعم نهجا واقعيا حذرا لمرافقة الرفع المحتمل للعقوبات الأميركية، لكنه يرفض قواعد الشفافية المالية لمجموعة العمل المالي (GAFI)
تغيير الجيل
تتزامن الانتخابات أيضًا مع تغيّر الأجيال، إذ يبلغ سن رفقاء الخميني – أولئك الذين أطاحوا بالشاه محمد بهلوي – أكثر من 80 سنة، بينما يبلغ متوسط سن المرشحين إلى الرئاسة لعام 2021 حوالي الستين سنة. هؤلاء كانوا الفاعلين في الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) وفي المعارك السياسية الشرسة لتأسيس الجمهورية الإسلامية الجديدة، والآن يمكنهم تقلد مناصب صنع القرار.
الانقسامات إذاً ليست سياسية بقدر ما هي فئوية مهنية (corporatistes)، أو مرتبطة بشبكات من أجل الوصول إلى ريع النفط والتنمية الاقتصادية المستقبلية للبلاد.
باختياره إبراهيم رئيسي، فضّل مجمع رجال الدين الانزواء على نفسه وإغلاق النظام، مخاطرا هكذا بالتسبب في قطيعة مع حلفائه السابقين. وفي نهاية المطاف، قرر حراس الثورة، ولا سيما محمد باقر قاليباف، رئيس البرلمان الجديد النشط جدا، عدم الترشح. الحل البونابارتي الذي اقترحوه لإعادة تحريك البلاد بصفة منتظمة لا يبدو ممكناً في الوقت الحالي أمام سلطة دينية أكثر مهارة. لكنهم باقون على مقعد الاحتياط، مستعدون “لتحمل مسؤولياتهم” إذا أخفق رجال الدين في مواجهة التحديات الجديدة. أما التكنوقراط الذين خدموا النظام الإسلامي ويرغبون في انفتاح دولي، فهم يقرون بأنهم يفتقرون إلى قاعدة شعبية. وقد أظهروا خلال أعمال الشغب لعام 2019 أنهم لا يدعمون “اللومبنبروليتاريا” (أي الفئات الدنيا) ويخشون التيارات الشعبوية التي لا تزال متجذرة والتي يمثلها الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. بل تأمل هذه النخب في كسب دعم قوي من الطبقة الوسطى الشعبية الجديدة مع أن هذه الأخيرة لا تثق فيهم كثيرا، وغالبًا ما تلومهم على غطرستهم وفسادهم.
شرعية النظام
في هذا السياق، يبدو أن فرضية “تغيير النظام” ناجمة عن ثورة شعبية أكثر طوباوية من أي وقت مضى، لأن الأزمة الاقتصادية وخاصة خيبة الأمل بعد التوقف المفاجئ لآفاق التنمية في عام 2017، هي التي تركز المطالب الرئيسية لغالبية السكان في مسائل الحياة اليومية. فالطبقة الوسطى الشعبية الجديدة، التي تتشكل من شباب كهل بين 25 و50 سنة والمنحدرة من طبقات متواضعة وتقليدية من المجتمع، هي أكثر تكونا وأكثر عددا من الشباب الذين تقل أعمارهم عن 20 سنة، منذ أن انهار معدل الخصوبة ابتداء من عام 1986. هذه الأغلبية المتمسكة في نفس الوقت بالتقاليد القومية والدينية الإيرانية وديناميات العالم المعاصر الذين لهم بها معرفة، ولكن ليس لديهم فيها تجربة، لا تريد أن تكون ضحية جديدا للسياسة والإيديولوجيا. فاختيار النظام وحتى الحرية السياسية يأتيان بعد قضايا الحياة اليومية. والاقتصاد له الأسبقية على الإيديولوجيا، حتى بالنسبة للعديد من النساء اللواتي يسبق بالنسبة لهن النضال من أجل العمل المطالب المتعلقة بارتداء الحجاب.
يعد فقدان شرعية النظام الإسلامي ورجال الدين والنخب الحاكمة منذ 40 سنة أمراً واقعاً يزيد من قلق أغلبية الشعب الإيراني (83 مليون نسمة) الذين يواجهون صعوبات الحياة اليومية وغياب أفق لأبنائهم. قلة فقط هم أنصار حياة سياسية تكرر شعارات مبتذلة حول تحرير القدس ورفض الولايات المتحدة الأميركية أو القوة الثورية لإسلام تحوّل إلى فئوية (…).
من المرجح أن الانتعاش الاقتصادي الذي سيتبع رفع العقوبات الأميركية الأكثر شدة سيسمح بالاستجابة للطلب الاجتماعي وتعزيز عهدة جديدة بأربع سنوات لرئيس منتخب ينحدر من فئة رجال الدين (…).
(*) النص الكامل على موقع “أوريان 21“