رحيل صنع الله إبراهيم.. الحارس الأخير للكلمة

عندما يموت مبدع يساري، ينقص الأمل أكثر ويعلو منسوب الإحباط في ذهن العالم ومستقبله. برحيل صنع الله إبراهيم، خسرنا الحارس الأخير للكلمة الحرة، والعين التي لم تخشَ مواجهة العتمة.

كان روح الحقيقة الباقية في حنايا السرد، وقلماً لم ينحنِ أمام بذاءة السلطة ولا زيف الجهل. رحل بعد صراع مع المرض عن ثلاثة وثمانين عامًا، لكن حضوره ظلّ يتردّد في الكتب وفي قلوب من أرادوا لوطنهم حرية وعدالة ومساواة.

لم تكن روايات صنع الله إبراهيم مجرد نصوص، بل وثائق حيّة لدم العصر. في “تلك الرائحة”، استحضر تجربة السجن ليكتب عن الغربة والقمع بجرأة مبكرة فتحت باب الحداثة في الرواية العربية. وفي “اللجنة”، واجه الفساد والسلطة المستبدة بلغة كافكاوية تنبش في جذور الخوف والهيمنة. أما “ذات”، فكانت يوميات امرأة مصرية تتحوّل إلى سجلّ اجتماعي وسياسي يعكس تحوّلات وطن بكامله. وفي “شرف”، قدّم شهادة صادمة عن السجون والفساد الإداري؛ عن أباطرة ومافيات المال والدواء. ثم جاءت “العمامة والقبعة” لتعيد قراءة تاريخ مصر مع الفرنسيين، كاشفًا عن جدل التهجين والاحتلال.

كتب أيضًا بيروت بيروت، الجليد، وردة، الأمريكانلي، والقانون الفرنسي، مؤكدًا أنه حفّار في ذاكرة التاريخ ومنقبٌ عن الحقيقة مهما حاصرها الظلام.

كان انتماؤه السياسي جزءًا من تكوينه الإبداعي. انخرط في الحركة الشيوعية منذ شبابه، ودفع ثمن ذلك سنوات من السجن في عهد جمال عبد الناصر. وحين خرج، عاد إلى الكتابة رافضًا أي مساومة على الحرية. وفي عام 2003، رفض جائزة كبرى احتجاجًا على سياسات الدولة، معلنًا أن الأسماء لا تُمنح إلا لمن ينحاز للحق لا لمن يُجمّل القمع.

نال صنع الله إبراهيم جوائز عربية ودولية تقديرًا لمواقفه وأعماله، لكنه ظلّ يرى أن الجائزة الحقيقية هي أن تبقى الكلمة حرّة، وأن تظلّ الرواية بيتًا للحقيقة.

رحل صنع الله إبراهيم كما يرحل نجمٌ يعرف أن الضوء لا يذبل. ترك وراءه دروبًا من الحبر تشبه القناديل في عتمة ليل طويل.

ترك بين أيدينا وصيّة غير مكتوبة: أن نحرس الكلمة كما تُحرس الأرض من الغزاة، وأن نؤمن أن الحرية لا تُورّث، بل تُنتزع.

كان يعرف أن الرواية ليست حكاية للتسلية، بل ساحة معركة، وأن القلم يمكن أن يكون سيفًا حين يُمسك به قلب لا يعرف الخوف.

رحل صنع الله، لكن صدى خطواته ما زال يتردّد في ممرات المكتبات، وفي وجوه القراء الذين سيبقون يقرأونه وكأنهم يلتقونه لأول مرة، وكل مرة.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "ربيع" العرب في عشريته.. خريفٌ مقيمٌ   
أغنار عواضة

كاتبة وشاعرة لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  برهان حياة ما عرفنا كيف نبت