“أبو نضال” يضرب في لندن.. وشارون يجتاح لبنان (44)

تحت عنوان "أبو نضال.. أبو شميضال"، يُعنوّن الكاتب رونين بيرغمان هذا الفصل من كتابه "انهض واقتل اولا، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الاسرائيلية" ويتطرق فيه إلى الغزو "الإسرائيلي" للبنان عام 1982.

بإختياره هذا العنوان، يشير الكاتب رونين بيرغمان بصورة واضحة الى التقاطع السياسي والعسكري بين أداء حركة “فتح ـ المجلس الثوري” بقيادة صبري البنا المعروف باسم “أبو نضال” وبين ارييل شارون وزير الدفاع “الإسرائيلي”. في هذا الصدد، كان الكاتب قد أشار في فصول سابقة الى ان شارون كان يسعى جاهداً الى استدراج رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات للقيام باي رد فعل عسكري ضد هدف “إسرائيلي” في أي مكان في العالم من اجل جعله ذريعة لإقتلاع منظمة التحرير من لبنان. جاءت محاولة اغتيال السفير “الإسرائيلي” في لندن شلومو أرغوف على يد نشطاء من حركة “أبو نضال” المنشقة عن حركة فتح لتقدم هذه الذريعة التي كانت بمثابة هدية غالية جداً لشارون.

في ربيع كل عام، كانت شركة “دي لا رو” البريطانية لأنظمة الامن وطباعة العملة، تقيم عشاء رسمياً للدبلوماسيين وكبار رجال الاعمال في لندن، وفي عام 1982، نظمت الشركة عشاءها هذا في الثالث من يونيو/ حزيران في فندق “دورشستر” اللندني الفخم بحضور 48 سفيراً ورئيس مجلس إدارة من كل انحاء العالم حيث يقيمون شبكات للتلاقي بين دولهم ويتبادلون المعلومات. وبعيد الساعة العاشرة مساء، وعندما بدأ الضيوف يهمون للمغادرة، وقف السفير “الإسرائيلي” شلومو أرغوف في بهو الفندق للتحدث مع أحد الدبلوماسيين وراحا يتناقشان حول طبيعة الهدايا التي ستقدمها بلادهما لأول ولد سيولد بعد أسبوعين للأمير تشارلز والأميرة ديانا. وعندما اقتربا من مدخل الفندق، تصافح ارغوف مع قطب الاعلام روبيرت ماكسويل وشكره على المواقف الصديقة لـ”إسرائيل” التي تنشرها صحفه. ولأنه لم يكن يُسمح لجهاز امن “الشين بيت” (“الإسرائيلي”) ان يعمل في بريطانيا، تولى مرافق بريطاني يدعى كولين سيمسون مهمة حماية ارغوف. خرج الأخير ومرافقه من الفندق وسارا حوالي الثلاثين خطوة نحو سيارة فولفو مصفحة تحمل لوحة تسجيل دبلوماسية ينتظرهما السائق داخلها. فتح المرافق الباب لارغوف لكن أياً منهما لم ينتبه إلى شخص كان يقترب منهما على الرصيف الا بعد فوات الأوان. كان هذا الشخص يدعى حسين غسان سعيد، وهو عضو في خلية سرية تابعة لحركة “أبو نضال”، وكان سعيد واثنان من رفاقه قد إنتظروا لمدة تزيد عن الساعة ونصف الساعة وهم يراقبون مدخل الفندق. وقبل يوم واحد من العملية، يقول سعيد “اتاني رفيقنا روسان وأخبرني ان غداً سيكون يوماً عظيماً للشعب الفلسطيني لأننا سنقتل صهيونياً مهماً جداً”.

تقدم شارون الى الحكومة المصغرة بخطة انتقاماً لمحاولة اغتيال أرغوف بعنوان “سلامة الجليل” بما يوحي أنها عملية دفاعية عن النفس، وقال شارون انها ستكون عبارة عن توغل محدود يهدف الى ابعاد خطر مدفعية منظمة التحرير عن المستعمرات الشمالية

يتابع رونين بيرغمان روايته ناقلا عن حسين سعيد الذي كان يحمل رشاشاً من طراز “wz-63” البولندي قوله انه اقترب من ارغوف من الخلف وهو يهم لركوب السيارة “اقتربت منه واخرجت سلاحي من الحقيبة وحملته بكلتا يدي تماماً كما كنت قد تعلمت، فيما كان الرجل الآخر يفتح له الباب. اقتربت اكثر حتى أصبحت على بعد امتار قليلة منه واطلقت عليه طلقة واحدة في الرأس”. أصيب ارغوف إصابة بالغة فدفعه سيمسون داخل السيارة، وقال للسائق ان يمضي به نحو أقرب مستشفى، فيما قرر هو “مطاردة القاتل”، كما ذكر في شهادته، وأضاف انه على بعد بضعة احياء من فندق دورشستر، وعند زاوية الشارع الجنوبي، استدار سعيد واطلق النار عليه لكنه اخطأه لتصيب طلقته سيارة احد افراد العائلة المالكة وتطاير زجاج السيارة على ملابسه، وفي اللحظة نفسها، اطلق المرافق سيمسون النار على سعيد واصابه في عنقه مباشرة تحت اذنه اليمنى فسقط ارضاً. وقد تم إلقاء القبض على رفاق سعيد بعد أربعين دقيقة فقط من الحادث، إذ تبين أن الاستخبارات البريطانية كانت زرعت عميلاً مزدوجاً في حركة “أبو نضال” لكنهم لم ينتبهوا للمعلومة التي سرّبها إليهم هذا العميل عن عملية الاغتيال ليكتشفوا الامر متأخرين. أصيب ارغوف بالشلل من جراء الإصابة وعانى الاماً مبرحة أدت الى وفاته في العام 2003.

بعد وقت قليل من محاولة الاغتيال، علمت الاستخبارات “الإسرائيلية” ان حركة “أبو نضال” المعادية لياسر عرفات كانت قد أمرت بتنفيذ العملية بناء على أوامر برزان التكريتي رئيس الاستخبارات العراقية، بحسب ما يقول ييغال سيمون الآمر السابق للوحدة 504 والذي كان حيننذاك يخدم في صفوف “الموساد” في “محطة لندن”. وكان برزان، الأخ نصف الشقيق للرئيس العراقي صدام حسين، يأمل ان تؤدي هذه العملية الى اشتباك واسع بين “إسرائيل” من جهة ومنظمة التحرير وسوريا من جهة مقابلة، والأطراف الثلاثة كانوا أعداء لدودين لصدام حسين، كما كان يأمل ان تؤدي الى توريط عدوه الرابع إيران. “كان لفريقي الصقور عند صدام حسين وشارون المصلحة نفسها في هذا الإطار”، يقول بيرغمان.

وفي اجتماع الحكومة “الإسرائيلية” المصغرة صبيحة يوم الرابع من يونيو/ حزيران 1982، اعلن رئيسها مناحيم بيغن “ان الهجوم على سفير يساوي هجوماً على دولة إسرائيل وسنرد”. لم يرد بيغن ان يصغي الى قادة استخباراته الذين حاولوا ان يخبروه ان منظمة التحرير الفلسطينية كانت تتصرف بحكمة لأكثر من سنة، منذ التوصل الى وقف لإطلاق النار برعاية أميركية في الصيف الذي سبق وان من اطلق النار على أرغوف كان عضواً في منظمة فلسطينية منشقة تريد هي ايضاً تصفية ياسر عرفات، فكان رد بيغن “كلهم منظمة التحرير الفلسطينية”، اما رئيس الأركان رافاييل ايتان فقال “أبو نضال.. أبو شميضال يجب ان نجتث منظمة التحرير الفلسطينية”.

يتابع بيرغمان روايته قائلاً “وهكذا اقرت الحكومة المصغرة قصفاً واسعاً وعنيفاً على مواقع منظمة التحرير في بيروت، وبطبيعة الحال لم يكن بمقدور عرفات ان يترك هذا القصف يمر من دون الرد عليه، فنزل سكان المستوطنات الشمالية الى الملاجئ بعد ان امطرت مدفعية منظمة التحرير مناطقهم بقذائف المدفعية. وفي لندن، حُكِمَ على سعيد بالسجن لمدة ثلاثين عاما، وقال سعيد في مقابلات هاتفية ورسائل انه لا يعتقد ان رصاصته هي التي اشعلت الحرب “الإسرائيلية” على لبنان، وأضاف “كانت ستحصل بكل الأحوال، وقد تكون عمليتي أثّرت في توقيت الغزو ولكن ايتان وشارون ارادا غزو لبنان باي حال، وقد استخدما ما فعلته كعذر لذلك”.

أراد شارون إعادة صياغة كل منطقة الشرق الأوسط، وكان يأمل من خلال غزوه هذا سيطرة القوات “الإسرائيلية” وحلفائها الكتائبيين على كل لبنان وتدمير قوات منظمة التحرير والتسبب بأضرار جسيمة للقوات السورية المنتشرة هناك، وبعد تأمين سيطرتها المطلقة على العاصمة، سوف تتولى القوات “الإسرائيلية” تنصيب قائد الكتائب بشير الجميل رئيساً

في صبيحة الخامس من يونيو/ حزيران، تقدم أرييل شارون الى الحكومة المصغرة بخطة انتقاماً لمحاولة اغتيال أرغوف بعنوان “سلامة الجليل” بما يوحي أنها عملية دفاعية عن النفس، وقال شارون للحكومة المصغرة انها ستكون عبارة عن توغل محدود يهدف الى ابعاد خطر مدفعية منظمة التحرير الفلسطينية عن المستعمرات الشمالية، وأشار إلى ان قوات “جيش الدفاع الإسرائيلي” لن تتقدم ابعد من أربعين كيلومتراً داخل لبنان وهذا يشكل المدى الذي تصل اليه المدافع الكبيرة لمنظمة التحرير الفلسطينية. وكان الوزير الوحيد الذي عارض الخطة في الحكومة المصغرة هو موردخاي تسيبوري الذي كان يتولى حينها حقيبة وزارة الاتصالات لأنه كان يشك بان أهداف شارون ابعد واكبر مما كان يقول. فتبعاً لخلفيته العسكرية، التقط تسيبوري فكرة ان الوصول الى هذا العمق وبوجود القوات السورية في لبنان لا بد ان يفضي إلى صدام بين القوات “الإسرائيلية” والسورية، ولكن بيغن رفض اعتراض تسيبوري وأعلن “لقد قلت اننا لن نهاجم السوريين”.

إقرأ على موقع 180  "قاعدة اليمن" تقود وساطة ثلاثية في سوريا بعد مقتل البغدادي

يتابع بيرغمان قائلاً ان شكوك تسيبوري كانت في محلها ومبررة، فما أعلنه شارون لم يكن سوى بداية خطة فعلية، إذ أنه كان ورئيس الأركان رافاييل ايتان يملكان جدول اعمال سري ابعد واكبر بكثير من المصرح عنه. فقد أراد شارون ان يستخدم دبابات “الجيش الإسرائيلي” لإعادة صياغة كل منطقة الشرق الأوسط، وكان يأمل من خلال غزوه هذا سيطرة القوات “الإسرائيلية” وحلفائها الكتائبيين على كل لبنان من الحدود الى بيروت وتدمير قوات منظمة التحرير الفلسطينية والتسبب بأضرار جسيمة للقوات السورية المنتشرة هناك، وبعد تأمين سيطرتها المطلقة على العاصمة، سوف تتولى القوات “الإسرائيلية” تنصيب قائد الكتائب بشير الجميل رئيساً للبلاد وبهذا يتحول لبنان الى حليف لـ”إسرائيل”، وتكون الخطوة التالية ان يقوم الجميل بطرد الفلسطينيين الى الأردن حيث سيكونون الأكثرية السكانية القادرة على انشاء دولة فلسطينية مكان المملكة الهاشمية، ومن شأن هذا ان ينهي مطالبة الفلسطينيين بإقامة دولة في الضفة الغربية التي ستتحول فعلياً الى جزء لا يتجزأ من دولة “إسرائيل”.

“هذه الخطة الرائعة”، كانت تتضمن عنصراً حساساً جداً هو قتل ياسر عرفات. فقد كان شارون يعتقد انه في الحرب على الإرهاب يُحتسب كثيراً امر الرموز والشعارات، فمن اجل ارسال إشارات تدمر معنويات الفلسطينيين، كان شارون وايتان مصممين على الوصول الى بيروت وإيجاد عرفات وقتله، وقد أنشئت لهذه المهمة مجموعة عمل خاصة حملت اسماً سرياً هو “السمكة المالحة”، واوكل شارون هذه المهمة الى خبيريه في شؤون العمليات السرية ايتان ومائير داغان. وينقل بيرغمان عن داغان قوله “كنت اعتقد ان قتل عرفات سيغير كل شيء، فعرفات لم يكن قائداً فلسطينياً فحسب، بل كان نوعاً ما الأب المؤسس للأمة الفلسطينية، ومن شأن قتله ان يطلق العنان لصراعات داخلية واسعة داخل منظمة التحرير الفلسطينية تؤدي الى تقويض قدراتها على اتخاذ أي قرار ذات بعد استراتيجي لاحقاً”.

وعد “التغلغل اربعين كيلومتراً فقط”، قد تحول الى شيء مختلف تماماً، فقد امر شارون قواته بمواصلة تقدمها، زاعماً ان ذلك يتم لضرورات عملياتية بحتة

وفي عالم الاستخبارات والمؤسسة العسكرية “الإسرائيلية”، فان كلاً من رئيس جهاز “أمان” اللواء يشوا ساغوي ورئيس “الموساد” الجنرال السابق في “الجيش الإسرائيلي” إسحاق هوفي عارضا بقوة غزو لبنان لانهما كانا يعلمان ان خلف وعود شارون وايتان “بتوغل محدود لا يزيد عن أربعين كيلومتراً في لبنان” كان يوجد خطة خفية من شأنها ان تضع “إسرائيل” في وضع حرج ومضر جداً، كما يقول بيرغمان نقلاً عن هوفي الذي أضاف “اعرفهما جيداً واعرف انهما لم يتخليا عن طموحهما وانهما بطريقة ما سيحاولان تحقيق ما كانا يريدان وهو الوصول الى بيروت وقتل عرفات”. وقد انذر هوفي رئيس الحكومة بيغن “ان غزو لبنان سيكون بمثابة حرب الغفران (حرب العام 1973 مع مصر وسوريا) لحزب الليكود الذي يرأسه بيغن وسيكون كارثة للدولة ولمنصبه تماماً، تماماً مثلما انهت حرب الغفران سيطرة حزب العمل على الدولة للمرة الأولى منذ قيام إسرائيل”. لكن بيغن رفض اعتراضات قادة أجهزة الاستخبارات وانطلق الجيش الإسرائيلي في غزوه للبنان في السادس من يونيو/ حزيران بعديد بلغ في البداية 76 ألف جندي و800 دبابة و1500 عربة مدرعة دخلوا لبنان من ثلاثة محاور مع قوة رابعة نفذت إنزالات من البحر، فضلاً عن كل سلاح الجو.

وقد رأى شارون ان البداية كانت واعدة، فقد حقق الجيش “الإسرائيلي” معظم الاهداف المرسومة له، وذلك بفضل التفوق الكبير بقدراته النارية والمعلومات الاستخبارية القيمة التي وفرها له جهازا “الموساد” و”أمان” مسبقاً عبر تلغلعل عملائهما عميقاً في الاجهزة المنخورة بالفساد التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، بالاضافة الى اداء الميلشيات الفلسطينية الذي فاق بسوئه كل توقعات “أمان”، فقد فر معظم المسؤولين الميدانيين الكبار تاركين مقاتليهم في الميدان لقدرهم، حسب رواية رونين بيرغمان.

وكما توقع وزير الاتصالات، ردّت القوات السورية العاملة في لبنان على الاستفزاز “الاسرائيلي” الصارخ، ولكن رئيس الاركان رافاييل ايتان الذي كانت القوات السورية قد هزمته شر هزيمة في مرتفعات الجولان في حرب العام 1973، وجدها فرصة سانحة للانتقام لهزيمته مستفيداً من التفوق الناري الكبير للقوات “الاسرائيلية” لتسجيل هدف التعادل. انهارت القوات السورية ايضا تحت ضغط النيران “الاسرائيلية” الهائلة. ومع الانتصارات العسكرية، اخذ يبدو بصورة واضحة وسريعة للحكومة “الاسرائيلية” المصغرة ان وعد “التغلغل اربعين كيلومتراً فقط”، قد تحول الى شيء مختلف تماماً، فقد امر شارون قواته بمواصلة تقدمها، زاعماً ان ذلك يتم لضرورات عملياتية بحتة، ونظرا للكاريزما التي كان يتمتع بها شارون ولشخصيته الطاغية، فان احداً من الوزراء لم يعترض على اوامره.

(*) في الحلقة المقبلة، كيف حاول الجيش “الإسرائيلي”، خلال إجتياح العام 1982، تنفيذ “عملية السمكة المالحة”، الهادفة إلى تصفية ياسر عرفات؟

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180   إسرائيل بمواجهة مأزق الضفة: "السلطة" أم عملية عسكرية؟