أنا لبنانية مقهورة.. ليس في بلادي من يبالي

يلازمني منذ أشهر إحساس بأنني على وشك الاختناق، هذا عدا عن الأفكار السوداوية التي أحاول تبديدها بالانغماس في العمل بما يفوق طاقتي أحيانا أو بممارسة السباحة أو ملاعبة أطفال عائلتي. حتى أنني ابتعدت عن متابعة الأخبار وعن التسكّع على وسائل التواصل الاجتماعي لكثرة ما تغص به من مآسٍ ونكبات.

قلت لنفسي، غوصي يا فتاة فيما يُلهيك عمّا يدور حولك، ابتعدي عمّا ينغّص عليك حياتك. اعملي، العبي بالكلمات واستمتعي برصفها أمامك على الشاشة، كما كنت تفعلين دوما. تذكّري أن العمل لطالما ساعدك على النهوض من أعمق كبواتك وأنه كان السبيل لخلاصك في لحظات تعثرك. اعملي فالعمل عملة نادرة في بلادك المنكوبة. غضّي الطرف عمّا ينهش ما تبقى من وطنك. احمدي الله أن لديك عملا وأنك قادرة على إعالة نفسك. لا مسئوليات لديك. لا أطفال تخافين عليهم من ألا تتمكني من تأمين حليب أو دواء لهم. لستِ مريضة ولا دواء تخافين من انقطاعه.

***

أمضيت شهرين تقريبا على هذا المنوال، أستيقظ صباحا، أذهب لممارسة الرياضة ومن ثم أبدأ فى العمل حتى منتصف الليل وهكذا دواليك. التزمت بنصائحي لنفسي. هربت أو حاولت الهروب. لكنّ محاولاتي باءت بالفشل. ازداد الإحساس بالاختناق بدل أن يخف. أصبحت أجد نفسي فجأة ودون سابق إنذار على وشك البكاء مرات متعددة في النهار، حتى حين أكون فى المقهى أو فى النادي. تغافلني الدموع على حين غرة وأجد صعوبة فى ردعها.

***

فى خلال الأسبوع المنصرم، وبينما كنت أنتظر دورى لملء خزان سيارتي بالوقود ولم يتبقَ أمامي سوى بضع سيارات، وقع إشكال فى المحطة وعلا صراخ المتجمعّين والمنتظرين هناك. التفتُ يمنة ويسارا في محاولة لإيجاد وسيلة للهروب ولم أجد أفضل من خفض رأسي تحت مقود السيارة هربا من رصاصة طائشة قد تنطلق على حين غفلة بالقرب مني. لحسن الحظ، لم يتطور الإشكال واختفى الصراخ. وانهمرت دموعي. دموع فرح سوداوي بأنني نجوت هذه المرة، أو «زمطت»، العبارة الشهيرة التي نستخدمها هناك كلما نجونا من انفجار أو حادث مأساوي. ودموع قهر من النكبة التي نعيشها. دموع قهر كتلك التي أحبسها حين أتنقل في مدينتي التي لم أعد أعرفها، أو حين تباغتني نوافذ لم يقوَ أصحابها على إصلاحها بعد آخر نكبة عصفت بوطني، أو حين أتصل لأحجز موعدا لدى طبيب تلو الآخر وأعرف أنهم تركوا البلاد، أو حين أدخل إلى صيدلية وأسأل عن دواء تلو الآخر ولا أجد أياً منها، حتى أبسط المسكنات، أو حين أعلم بوفاة أم وبناتها الأربع في حادث سير أثناء بحثهن عن وقود لسيارة تقلّهن إلى المطار لاستقبال رب العائلة العائد من مهجره القسري، أو حين تردد والدتي التي ما عدت قادرة على زيارتها أسبوعيا على عادتي لعدم توفر الوقود والتي لطالما رفضت فكرة أن يهاجر أحد منا، «روحوا مطرح ما في خير إلكم، المهم تكونوا مناح».

دموع قهر كتلك التي أحبسها حين أتنقل في مدينتي التي لم أعد أعرفها، أو حين تباغتني نوافذ لم يقوَ أصحابها على إصلاحها بعد آخر نكبة عصفت بوطني، أو حين أتصل لأحجز موعدا لدى طبيب تلو الآخر وأعرف أنهم تركوا البلاد، أو حين أدخل إلى صيدلية وأسأل عن دواء تلو الآخر ولا أجد أياً منها، حتى أبسط المسكنات

***

عندما خف ضغط عملي في الأيام القليلة الماضية، قررت الخروج قليلا والترفيه عن نفسي. خرجت مع مجموعة من الأصدقاء. هالني القهر والحزن المتدفق من أعين الحاضرين من مواطني ومواطنات جمهوريتي المنكوبة. حزن وقهر بالغوا فى محاولة إخفائه بالرقص أو بإظهار بهجة مصطنعة. أنا التي كنت متحمسة للخروج وجدت نفسي على شفا الاختناق، حاولت مثلهم أن أتظاهر بالمرح وأن أتمايل مع الموسيقى، لكن لم أتمكن من غش المقربين بين الحضور. تذرّعت بألم في المعدة وأنني سأخرج قليلا لأتنشق بعض الهواء وشرب الماء علّه يزول. تكرّر ذلك في كل مرة خرجت فيها.

***

هربت ولم أفلِح. لم ينفعني الانغماس فى العمل الذى أضحى يتطلب مني تركيزا أكبر، وازدادت هفواتي على نحوٍ اضطر معه أحيانا إلى الاعتذار أو التوقف عن متابعة مهامي. حتى الكتابة التي لطالما لجأت إليها منذ نعومة أظفاري لأفرغ قيء أفكاري حين تسودّ الدنيا أمامي، لم تعد متنفسي. أجد نفسي عاجزة عن كتابة جملة أو جملتين. أكتب لأحذف. كثيرة كانت في الأشهر الأخيرة لحظات الانفعال الشديد التي كانت في الماضي محرّضتي على الكتابة، لكن الكلمات كانت تعلق في كل مرة عند أطراف أصابعي وأعجز عن نقلها على الشاشة أمامي.

***

أعرف السبب، فأنا لا أريد أن أرى تلك الكلمات. وذلك الواقع الذي أهرب منه. عمّا أكتب؟ عن والديَّ العجوزين اللذين يعيشان للمرة الثانية في حياتهما اضمحلال قيمة مدخولهما. كانا سعيدين في السنوات الأخيرة لأنهما تمكنّا من النهوض وتأمين مدخول يقيهما العوز في تقاعدهما. عن صديقة وزميلة سابقة لم يعد لراتبها قيمة وعلق جنى عمر زوجها في المصارف. عن جاري المعماري العاطل عن العمل فى بلد لم يعد هناك فيه من ورشة بناء ولم يعد قادرا على إعالة عائلته. عن ابن صديقتي المراهق المتفوق الذى لن يجد جامعة يرتادها في العام المقبل والذي حتى قد لا يجد ما يقله إلى المدينة لتقديم امتحانات الثانوية العامة. عن جدي الذي ندعو الله ألا تتدهور حالته الصحية لأن ما من مستشفى قد يستقبله. عن صديقتي الطبيبة التى تسعى بشتى السبل إلى إيجاد عمل في الخارج لتحزم حقائبها مجددا مع أطفالها الثلاثة من وطن حطّت فيه رحالها بعد تنقلها بين مهاجِر متعددة. عن عامل تعرض لحادث واعتذروا في طوارئ المستشفى عن مداواة كسر يده لأن ليس لديهم معدات. عن شاب نزف حتى الموت ليس لقلة المتبرعين له بالدم بل لعدم توافر القوارير اللازمة لنقل دم إلى جسده.
قهر ما بعده قهر. وليس في بلادي من يبالي.

إقرأ على موقع 180  الإقتصاد المصري.. ولعنة الدم الفلسطيني

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

كاتبة لبنانية

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  تجربة فرنسا بمواجهة كورونا.. ومعضلاتها الأخلاقية