وسام.. الميم لورد

تحضر أمامي دائماً صورة أحمد مكي بشخصية الخليجي في "طير إنت" عندما أتعرض لتجربة سماع النكات المصرية من أصدقاء غير مصريين، إلا من وسام. فالرفيق تجاوز مسألة المود المصري في إلقاء النكات والإيفيهات الحرّاقة، إلى منطقة الـ "ميم لورد - memelord" الحقيقي.

قبل عدة سنوات، عندما تحولت الميمز إلى ثقافة شعبية كاسحة في مصر بعد انتقالها من أطفال الثورات، الجيل زد، إلى جيل الكبار مواليد أوائل الثمانينات، الميلينيالز، وجدت وسام وقد بدأ يمطرنا بسيل منها سواء عبر صفحته في فيسبوك أو في الإنبوكسات، فكل جملة تحتمل “ميما” لا يتركها تمر هكذا مهما كانت جدية الحوار العام أو الإنبوكسي.

أضع هنا “ميمه” المفضّل في حواراتنا، حيث الرفيق ستالين يرسم قلبًا، يخفي وراءه بلطة بالطبع، سيستخدمها بعد قليل على رأس معارضه المنخدع بابتسامته الخبيثة المجللة بالشارب الكث.

القدرة على النفاذ إلى ثقافة مواليد ما بعد الـ 99 ليست بالأمر السهل. فالأمر يحتاج إلى مجهودات حقيقية ومخلصة، فمثلاً التخلص من هذا الإيموجي: 😂 باعتباره الرمز الأكثر استخداماً في المحادثات بين أبناء جيلنا للتعبير عن الضحك، لصالح هذا الإيموجي:💀 الذي يعبر عن نفس المعنى في ثقافة هؤلاء “العيال”؛ يحتاج تمرينات مكثفة للدماغ حتى تنجح في هذا التحول.

لا أعني بالطبع أن المدرسة المصرية في النكتة أو الكوميديا هي الأفضل. إطلاقًا، ما قصدته أن لكل مدرسة مجموعة مفاتيح، فإن لم تتمكن منها، فالأفضل أن تبقى في “كوزك” لأنك ستصبح ثقيلًا جدًا.

من وجهة نظر المدرسة المصرية في الضحك، إن تملكت مفاتيحها، سيبقى أمر أخير هو الأهم بينها: أين تقول الإيفيه؟ ومتى تنتهي منه؟ حتى تتجنب السخافة، بالطبع هناك كلمة شعبية مرادفة للسخافة سأتجنب استعمالها هنا، وإن كان وسام سيحب استخدامها بالطبع. بالإذن منك يا شقيق. فوسام كان يعرف ذلك ببراعة ابن البلد الحقيقي خفيف الظل. طبعًا كان لديه عشرات الأصدقاء من المصريين ربما أفادوه، لكن يبقى الاستعداد والموهبة الفطرية التي لا يمكن اكتسابها أو تعلمها، فملايين المصريين لا يمتلكون ظلًا خفيفًا، وهذه هي صعوبة الأمر.

هذه النقطة تحيلني بالضبط إلى حب وسام للأكل. فالفارق واسع جدًا بين الشخص الشره للطعام المفجوع، والأكّيل الذوّاق المحبّ الذي كانه وسام، محبته للاستمتاع بالأشياء كالطعام والشراب والتدخين والرغيّ لا تقترب أبدًا من الشره، وإنما هي مدخل للذوق العالي ومن أجل المتعة فقط.

في هذا الباب لا أعتقد أن احتفالًا لائقًا بوسام يتم دون أن يكون في مطعم شعبي جيّد يُقدّر مكونات الطعام البلدي ويُحسن استخدامها، تمامًا كصورته الأخيرة أمام طاجن للعكاوي في مطعم بيروتي، وعلى وجهه تعبير ”صداع من كتر العظمة“. نسيت أن أسأله عن أصل الأكلة وهل هي مصرية أم أنكم تأكلون هذا الجزء من الأبقار. فيما بعد، سألت صباح وعمر فقالا إنها أكلة موجودة في لبنان وإن كانت ليست شعبية. متأكد طبعًا أنه اختارها ليغطي على اشتياقه لنظيرتها المصرية.

الانشغال بتلقي الجرعة الثانية من لقاح كورونا أنسانا الدخول في المشاكسة الشهيرة والتافهة قبل شهر عن المقارنة بين المطعمين المصري واللبناني. أعتقد، وسيشاركني وسام في ذلك، أن المطعم المصري غير فقير على الإطلاق وإن كان وسمه بالفقر ناتج عن غياب تنويعات أطباق اللحوم في مقابل تنوع هائل في الخبز. في المقابل، فإن شيوع الصورة الذهنية هنا في مصر بأن المطعم اللبناني “متني” لا يُشبع، غير حقيقية. هذه الحقيقة اختبرتها بأصعب، وأشهى، الطرق في أحد مطاعم الضاحية الجنوبية التي رشحها وسام في لقائي الوحيد ببيروت قبل الانهيار، فأنا لا آكل اللحوم النيئة وبالطبع لا آكل الأكباد، لكنه حسم الأمر بـ”أنا وقفت ع إيدين الشباب تحت وهم بيقتلوا الحيوان”، طبعاً لم يحتج لشرح الإحالة إلى جملة اللمبي في لقاء تليفزيوني أول أيام عمله على عربة الكبدة، ولا هو حاول تقليده أصلًا. وصل الإيفيه وانتهى الأمر. بالطبع لن أذكر هنا باقي الستريوتايبس الدينية والطائفية التي دمرها بالنكات ونحن في الطريق من وإلى المطعم، الذي انتهى بنا في مطعم آخر للحلويات الشرقية، وقبلها كان إفطارًا خفيفًا في محل غير مشهور جدًا، لكن رهيب، يبيع الشاورما مع توم زيادة.

عشية إعلان الوفاة، جلست مع صباح (أيوب) وعمر(سعيد)، بينما كانت رسائل محمود (مروه) الصوتية تتوالى عن تصوره للملف الصحفي الذي يحضّره مع أصدقاء في بيروت سيُنشر بعد إعلان “الخبر” في اليوم التالي. قلت لعمر إن الخبر يجب أن يصيغه زميل من كتّاب الحدود، لأن هذا أكثر ما يليق بوسام حتى وإن كانت مدرستهم في الإضحاك تبتعد كثيرًا عن مدرسته، لكن على الأقل بدلًا من الجدية التي تُكتَب بها المراثي يجب أن يكون النعي كوميدياً حتى يتجنب محمود وعمر السفّ والسباب الذي سيطالهما من “المكان الآخر” بسبب هذه الرومانسية الجادة. لم يفعلا ذلك للأسف، إذ لم يكن وسام صديقًا لأي من زملاء الحدود على حد علمنا، حتى نطلب منه ذلك.

إقرأ على موقع 180  تصنيع الجهل.. لبنان نموذجاً!

بقي أمر ثان نعتقد أن وسام كان لينبسط به جدًا وهو أن يكون حفل تأبينه على مائدة طيبة في أحد المطاعم الشعبية التي يحبها. لم يفت الوقت، وهو ما سنفعله قريبًا، وأتمنى أن يكون معنا محمود.

وباعتبار أن هذا نعي، يُفترض به أن يكون جادًا، لصديق يعمل محررًا صحفيًا، سأكتب مقطعًا في الآخر عن هذا الأمر غير المهم.

***

لم أتعامل مع وسام صحفيًا لفترة طويلة، سنة واحدة لكنها كانت كفيلة بمنحي فكرة وافية عنه كمحرر، خصوصًا وأن الرسالة الإخبارية الأولى التي تُنشر لي كمراسل لصحيفة السفير من مصر كانت يوم 14 آب/أغسطس 2013، يوم “مذبحة رابعة”.

بعد سنوات من احتراف الصحافة عملت مع عدد قليل من المحررين، لكن وسام كان من بين الأفضل الذين تعاملت معهم، (أتخيّله الآن يضحك من هذا الابتذال، لكنها الحقيقة مع الأسف)، لا يبخل بوقته لاستكشاف مناطق جديدة مدعومًا بقراءة سياسية ممتازة وذهن حاضر أبدًا، وإحالات لأخبار تبدو وحدها غير مهمة إلا أن جمعها سويًا مع تحليل وقراءة سياسية دقيقة يجعل منها شيئًا آخر. لا أعرف تحديدًا كيف كان يجد الوقت لهذه المناقشات الطويلة وسط باقي مسؤولياته كمحرر لأهم أقسام السفير: العربي والدولي.

تبادلنا أدوار المحرر والمراسل مرة أو مرتين وقت انفجار مرفأ بيروت، الذي نجا منه بأعجوبة أثناء تناول غداء طيب، لكن بقيت جملة قديمة تتكرر مع اختلاف الأدوار: “رفيق، انت تصرف من غير سؤال”.

(بعدسة وسام متى)

***

وقت الموت السريري، سألني محمود، بخجل، إن كنت أقدر على كتابة شيء لوسام ننشره بعد إعلان الخبر إياه. قلت إنني سأحاول. لم أقطع وعدًا، إذ أجيد الهروب من كتابة المراثي أو حتى التعاطي معها افتراضياً، لكنني كنت أشعر أن هذا هو تكليف وسام الأخير برسالة صحفية من مصر. تأخرتُ يومين، إذ كنت متعلقًا ببعض الأمل. حسبت أن وسام لو أفلت منها، سأكون مضطرًا لأرسل له ما كتبته، وأعرف جيدًا أنني يجب أن أتحمل المسخرة التي ستطالني، ففضلت الانتظار، لربما يحدث شيء ما. ولم يحدث.

الآن أصبحت المرة الأولى التي أكتب فيها رثاءَ أحد الأصدقاء من أبناء جيلي، ربما لأني اعتقدت قبل أيام أن دورنا لم يحن بعد، وأن أمامنا على الأقل أربعين عامًا أخرى نعيشها، أو خمسة وأربعين، لكنني بت أعرف الآن أن العجلة دارت.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

صحافي وكاتب مصري

Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  الثقة عملة لبنان الصعبة النادرة.. وليس الدولار