بالأمس، وجّه رجب طيب أردوغان ضربة جديدة للإرث الأتاتوركي. هذه المرة سدد ضربته في المرمى الأكثر حساسية، حيث يختلط إرث التاريخ والحضارة بتعقيدات السياسة الداخلية والخارجية.
بالنسبة إلى أردوغان، يعد تغيير وضعية آيا صوفيا وسيلة مناسبة لتصفية الحسابات على أكثر من جبهة: هي تصفية حسابات مع مصطفى كمال أتاتورك وعلمانيته؛ مع معارضي التوجهات الإسلامية المحافظة لـ”حزب العدالة والتنمية” الحاكم؛ مع اليونانيين الذين يعتبرون أنفسهم الوريث الشرعي للامبراطورية البيزنطية؛ وأخيراً مع الغرب الذي يحاول “السلطان” أن يفرض عليه أمراً واقعاً في الكثير من الملفات.
ضمن هذه الخلفية، تلقف الرئيس التركي قرار المحكمة الإدارية العليا في تركيا – مجلس الدولة – في الدعوى القضائية التي تطالب بإعادة النظر في وضع آيا صوفيا.
جادل المدعي، رئيس صندوق التراث التاريخي والبيئة، إسماعيل كانديمير، بأن قرار عام 1934 كان غير قانوني، حيث أن المسجد هو ملكية خاصة للوقف الإسلامي، ولا يحق بالتالي للحكومة التصرف فيه، وانطلاقاً من هذه الحيثية، قرر القضاة، بالإجماع، أن ادعاءات المدعي محقة، وألغوا القرار “الأتاتوركي”.
وبعد فترة وجيزة، وقع الرئيس رجب طيب أردوغان مرسوماً يسمح للمسلمين بالصلاة في آيا صوفيا، والتي ستتمتع منذ الآن وصاعداً بوضعية المسجد.
بذلك، أصاب أردوغان أكثر من هدف في الداخل والخارج بحجر واحدٍ.
داخلياً، يمكن فهم قضية آيا صوفيا في بعدين عقائدي وسياسي. من جهة، يترجم قرار تغيير وضعية المبنى التاريخي سعي رجب طيب أردوغان لتعديل إرث أتاتورك، لكي يجعل نفسه “أتاتورك الجديد”، والد تركيا الحديثة الجديدة. وهو، من جهة ثانية، أداة ضرورية لحشد الناخبين المحافظين حول النخبة الحاكمة، بعد الانقسامات المتلاحقة التي ضربت صفوفها، وفي الوقت ذاته تشتيت شمل المعارضة عبر اجتذاب الفئات الأكثر القومية، التي تنظر إلى قضية آية صوفيا باعتبارها رمزاً للسيادة الوطنية، وإضعاف شعبية الفئات العلمانية، إن هي اعترضت على القرار.
أما خارجياً، فإن أردوغان من خلال قرار آيا صوفيا، يسعى لتكريس دور مستقل لتركيا، عبر إظهار عظمتها كلاعب رئيسي في العوالم الثلاثة التي تنظر إليها النخبة الحاكمة التركية باعتبارها مجالاً حيوياً للسياسة الخارجية: العالم التركي، العالم الإسلامي، والعالم العثماني الجديد.
على هذا الأساس، كان من الطبيعي أن يتحدى أردوغان الجميع في قضية آيا صوفيا، ويتجاهل الانتقادات الحادة التي لم تقتصر على اليونان – الذي ينظر الى المعلم التاريخي بوصفه ارثاً بيزنطياً – أو اليونيسكو – التي تنظر الى المبنى باعتباره ارثاً حضارياً عالمياً… بل شملت مواقف صدرت من موسكو (الكنيسة الروسية، وزارة الخارجية، الدوما) وواشنطن (على لسان مايك بومبيو).
ويبدو أن اردوغان في ذلك قد قارب تأثيرات الموقف الدولي من آيا صوفيا بالمنطق نفسه الذي قارب فيه دونالد ترامب الموقف الدولي من الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، لا بل أن الآلة الاعلامية التركية تبدو مجهزة مسبقاً لإقامة الحجة المضادة على معارضي القرار في الخارج، ابتداءً من التأكيد على أنها لن تمس بالموجودات التاريخية للكاتدرائية/المتحف، وان ابوابها ستبقى مفتوحة للزوار القادمين من كافة أنحاء العالم، وانتهاءً بتذكير المجتمع الدولي بمئات المساجد العثمانية في اليونان وقبرص والتي تم تحويل بعضها إلى كنائس أو ومستودعات ومحلات تجارية أو حتى حانات ونواد ليلية.
واذا كان قرار آيا صوفيا قد بات أمراً واقعاً، فإن مفاعيله قد لا تكون بالقدر المرتجي سياسياً من قبل رجب طيب أردوغان، ولا سيما في الشق الداخلي.
أولى المؤشرات داخلياً، تمثلت في أن المعارضة التركية اختارت عدم تأييد أو انتقاد التغيير في وضعية آيا صوفيا، والتركيز بدلاً من ذلك على خلفيات اردوغان الاستغلالية لهذه القضية الحساسة.
بذلك، تحاول المعارضة التركية جعل النقاش الحقيقي يتجاوز مسألة تأييد القرار أو معارضته، وبالتالي التركيز على سؤال “لماذا قرر اردوغان فجأة تحويل المتحف الى مسجد؟”، منطلقة في ذلك من مزاج شعبي عبر فيه 44 في المئة من الأتراك في استطلاع حول الموضوع عن اعتقادهم بأن تغيير وضعية آيا صوفيا كان الهدف منه تحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل الاقتصادية، وساعية في الوقت ذاته لقطع الطريق على محاولات اردوغان احراجها أو تشتيت صفوفها.
أما خارجياً، فمن المؤكد أن ما جرى سيعقد علاقات تركيا مع الغرب، وحتى مع روسيا، لا سيما أن الخطوة اظهرت أن تركيا أصبحت أكثر محافظةً وتركيزاً على المصالح القومية، خصوصاً أن رمزية آيا صوفيا – التي يحاول بعض المغالين جعل قرار اعادتها الى سابق عهدها العثماني موازياً لفتح القسطنطينية نفسها – تثير قلق كثيرين من أن النزعة المحافظة ستمتد عاجلاً أم آجلاً في اتجاهات عدة، سواء في ميدان الطموحات التركية داخل أوروبا، أو في الفضاء ما بعد السوفياتي، فضلاً عن مساحات واسعة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وسام متى12/07/2020
حين تقام صلاة الجمعة في آيا صوفيا في اسطنبول يوم الرابع والعشرين من تموز/يوليو، ستتبدّى ملامح نشوة الانتصار على وجه رجب طيب أردوغان. الصورة التي ستُلتقط له في الصفوف الأمامية للمصلين في هذا اليوم سيكون لها طابع تاريخي، من دون أي شك، ليس لأن قرار اعادة المعلم التاريخي إلى وضعية المسجد قد حَسم جدلاً من عمر الجمهورية التركية فحسب، بل لأنّ الخطوة تحمل الكثير من الدلالات، إن على مستوى العلاقات الداخلية في تركيا، أو على مستوى علاقات تركيا الخارجية.