هذه المرة، لن يكون سهلاً التنصل من المسؤوليات. لن يكون سهلاً التغاضي عن مأساة عكار، لكن يبقى السؤال من أوصل عكار إلى هذا الدرك من الفلتان الأمني والحرمان من أبسط مقومات الحياة؟
لطالما شكلت محافظة عكار في شمال لبنان الخزان البشري لـ”قوى 14 آذار”، في أعقاب جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005، وأعطت لوريثه السياسي زعيم تيار المستقبل سعد الحريري تفويضاً بأصواتها بلا منازع حتى العام 2018، لكن “السماء الزرقاء” (شعار تيار المستقبل) طوال ثلاثة عشر عاما لم تكن كفيلة بتحقيق الانماء، ولم تهطل منها سوى وعود ترجمت مزيدا من الفقر والحرمان والتسيب الأمني، وصولاً إلى كارثة التليل ـ عكار التي أودت بحياة 32 شهيداً وأدت إلى سقوط 90 جريحاً، هم ضحايا البحث عن تنكة البنزين، فضلاً عن عدد من المفقودين.
منذ حراك 17 تشرين/أكتوبر 2019، يوم ظهرت شعارات كثيرة لحراك شارك فيه بداية من اعتقد أنه يسعى الى تغيير شامل، ليتضح أن النظام الطائفي متجذر في عقول هؤلاء قبل غيرهم، بدأت عكار تعيش حصاراً فعلياً يتحكم فيه قطاع طرق قطّعوا أوصال المنطقة وعزلوها عن الشمال وبيروت. لا جامعات، لا مستشفيات، إعتراض المارة في الطرق، إشكالات وفوضى أمنية وعمليات سلب وتشليح في وضح النهار تنامت مع تفاقم الانهيار الإقتصادي والمالي.
حُرمت عكار من المواد المدعومة التي لم تجد طريقها سوى الى حدود لبنان الشمالية مع سوريا، وذلك برعاية سياسية لنافذين ممن يتباهون بسيطرة مجموعاتهم المسلحة على الأرض، وبغض نظر واضح لكل الأجهزة الأمنية والإدارية والقضائية. خطوط التهريب في عكار (بإتجاه سوريا) معروفة، خط مرجحين ـ الهرمل ينشط، وهناك قطع طرق بين المهربين بهدف تنظيم العمل المافيوي.. وصولاُ إلى “تمكين كل المهربين والمسيطرين على المنطقة من الحصول على حصة”، وفق تسجيلات صوتية تم تداولها بين القيمين على خطوط التهريب.
حرمان أبناء عكار من المازوت والبنزين دفع المفتش الديني في دائرة الأوقاف الإسلامية الشيخ خالد اسماعيل إبن بلدة فنيدق للمجاهرة برأيه، فكتب، “فنيدق المحرومة في ظلام دامس، بالرغم من ان أكبر خط تهريب في شمال لبنان للمواد النفطية والغذائية والدوائية و… يمر من منطقة جرد القيطع، فنسأل الله تعالى أن ينتقم ممن أوصلونا إلى هذا الدرك الأسفل من العيش”.
واللافت للإنتباه أن منطقة جرد القيطع هي خزان تيار المستقبل وركيزته الأولى، وهي بلدة النائب وليد وجيه البعريني الذي حصد في الانتخابات النيابية عام 2018 حوالي 21 ألف صوت، وهي أيضاً منطقة مفتي عكار الشيخ زيد بكار زكريا (إنتقد “الثوار” وقاطعي الطرق) ومنطقة منسق تيار المستقبل في عكار عبد الاله زكريا.
هذا الربط بين عكار والإرهاب يؤدي إلى دمغ هذه المنطقة بتهمة الإرهاب وهي منها براء. يسري ذلك على وجوه كثيرة أرادت حصر التهريب فقط بتيار المستقبل بينما تدل تجارب السنوات العشر الماضية أن التهريب لا لون سياسياً أو طائفياً أو مذهبياً له بل هو عابر للطوائف والمناطق والمعسكرات السياسية
منذ أشهر وعكار تقترب من النار، ومجزرة التليل فجر أمس (الأحد) هي نتيجة طبيعية للتراخي الأمني، وتغييب أجهزة الدولة الأمنية والرقابية، وتقاعس السلطات المحلية عن القيام بواجباتها، فالجميع بات مستقيلاً من مهامه ويردد “شو أنا دولة”، فكانت النتيجة ترك الأمور على غاربها وإمتناع الشركات عن ارسال المحروقات الى عكار، ولم يتوان زعران المنطقة عن مصادرة محروقات مخصصة للمستشفيات ودور الرعاية.
في الوقت نفسه، قرر الجيش اللبناني عدم التدخل خشية التحريض الطائفي فيما إمتنعت قوى الأمن الداخلي عن القيام بأي دور، لكأن دورها ينحصر فقط بمراقبة فقراء يسعون لبناء أسقف تأويهم.
وسط هذه الفوضى الخلاقة، خرجت بيانات تحمل الأرقام 1، و2، و3، مذيلة بتوقيع “القوة الضاربة في عكار”، والتي نصبت نفسها مكان الدولة ومؤسساتها.
واشار البيان رقم 1 “الى أنه بعد التثبت وتصوير فيديوهات كثيرة تُظهر نقاط التفتيش التابعة للمؤسسة العسكرية التي تتم عبرها عمليات تهريب الصهاريج إلى الداخل السوري، ارتأينا أن نأخذ دور الدولة في المرحلة المقبلة وأن نضرب بيد من حديد ودون رحمة، فالرؤوس أينعت وقد حان قطافها”.
على هذا الأساس، قام هؤلاء “الثوار” بالكشف عن خزانات الوقود في بلدة التليل من دون حضور مؤسسات الدولة المعنية، إلى أن قرر الجيش اللبناني لاحقاً التدخل ومصادرة 39 الف ليتر من البنزين تم نقلهم الى مطار القليعات، وبقي ما يقارب الـ10 سنتيمتر من البنزين، أي ما يقارب الـ 5 آلالف ليتر، فطلب حوالي عشرة أشخاص من الجيش الحصول على الكمية المتبقية فوافق الأخير، قبل أن يدب الأهالي الصوت على أقربائهم للحصول على البنزين المجاني، لكونه سلعة نادرة حتى في السوق السوداء، فإرتفع العدد الى ما يقارب الـ400 شخص وسادت المكان حالة من الهرج والمرج ما أدى الى وقوع الكارثة المؤلمة قرابة الثانية والنصف من فجر يوم الأحد الماضي.
الاستثمار السياسي كان حاضراً، فوُجّهت أصابع الاتهام من قبل “الثوار” الذين عمدوا الى التحريض طائفياً على نائب التيار الوطني الحر أسعد درغام، لا لشيء بل لأن الموقع الجغرافي لبلدة التليل (المسيحية) تتوسط بلدات الدريب الأوسط (ذات الغالبية السنية)، كما أن التقسيم الديمغرافي سهّل عملية إسترجاع المكبوت الطائفي البغيض.
وبالرغم من أن الحقيقة في مكان آخر، لأن التجارة والاستثمارات وتحقيق الأرباح تتجاوز كل القيود الطائفية فصاحب الأرض ومن قام بتخزين المواد هما فعلياً من جمهور “المستقبل” وهما في صلب الماكينات الانتخابية الفاعلة لـ”تيار المستقبل”، الا أن الاستثمار السياسي الرخيص أجج الصراع وفتح بابا للسجالات في حين أن دماء الضحايا لا تزال ساخنة والأشلاء متطايرة في كل مكان.
مجدداً هي السياسة. مجدداً هي الطائفية البغيضة تستحضر عند كل إستحقاق سياسي أو أمني كبير، فيتموضع كل فريق ضمن عشيرته، فهل تكون الشرارة هذه المرة من عكار، خصوصا عقب مطالبة الرئيس سعد الحريري باستقالة رئيس الجمهورية وهو ما رأى فيه البعض موقفا يحاول تبديد فرصة ولادة حكومة جديدة برئاسة نجيب ميقاتي، وهل بدد إنفجار عكار ـ التليل الأمل بتشكيل الحكومة خلال أيام، بدل أن يكون حافزا للملمة الجراح والالتفات الى أشد المحافظات اللبنانية بؤسا؟
كل ذلك لا يبرر لأي مسؤول كبير في الدولة اللبنانية أن يختار لحظة مأساة عكار لتذكير الرأي العام بتلقيه تقريراً أعدته الأجهزة الأمنية عن “أنشطة جماعات متشددة في منطقة الشمال لخلق نوع من الفوضى والفلتان الأمني”. هذا الربط بين عكار والإرهاب يؤدي إلى دمغ هذه المنطقة بتهمة الإرهاب وهي منها براء. يسري ذلك على وجوه كثيرة أرادت حصر التهريب فقط بتيار المستقبل بينما تدل تجارب السنوات العشر الماضية أن التهريب لا لون سياسياً أو طائفياً أو مذهبياً له بل هو عابر للطوائف والمناطق والمعسكرات السياسية.