لقد شكّل إعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن انطلاق باخرة نفط محملة بالمازوت من إيران إلى لبنان، انتصاراً معنوياً لجمهور حزبي مربك من الفشل الذي تورّط به حزبه في إدارة الدولة منذ سنوات، وصولاً إلى لعب دور حارس النظام وحاميه بمختلف الوسائل منذ 17 تشرين/أكتوبر 2019 حتى يومنا هذا. لكنّ الإعلان نفسه شكّل، في الوقت نفسه، هاجساً لخصومه، ممّن أبدوا خشيتهم من زجّ لبنان في آتون الصراع الأميركي ـ الايراني، وتساءل كثيرون في سرهم أو في العلن عن امكانية فرض عقوبات أميركية فعلية على لبنان جرّاء العقوبات المفروضة على ايران قبلاً.
ولعلّ مخاوف المتوجسين لا يتفوّق عليها سوى مبالغات المهلّلين لهذه الخطوة، والتي لن تكون، كما يعرف العارفون، حلّاً لأزمة قطاع الطاقة عموماً في لبنان حيث ستضيع مجدداً في خزانات احتكارات التجار وقوى السلطة المتنفّذة، وفي قنوات التهريب المتشعّبة بقاعاً وشمالاً إلى سوريا، وسيصل منها القليل إلى المولدات والمؤسسات المحظية بقربها من الجهة السياسية الناظمة لهذا المشروع. لن تمرّ الباخرة إن وصلت، وتالياتها إن أتت، عبر الدولة اللبنانية أو وزارة الطاقة (كما حصل في اتفاقية الفيول العراقي لصالح شركة كهرباء لبنان)، ولن تدفع مستحقاتها عبر مصرف لبنان ولن تسدّد ضرائب لوزارة المالية، ولن تشرف على توزيعها وزارة الاقتصاد. ستكون صفقةً حصريةً لطرف محليّ خارج كل الأطر الرسمية، وكأنّ لبنان ينقصه تعزيز منطق “حارة كلّ من إيدو إلو”، أو تعميق واقع الدويلات داخل الدولة وتكريساً لفدرالية طوائفية كانتونيّة، لم تكن نتائجها سوى دماراً وبؤساً لعقود خلت.
ويبرز مجدداً التساؤل/الاتهام: لماذا لا تقوم الدولة بعقد اتفاقيات ثنائية رسمية للاستيراد المباشر مع دول أخرى أياً كان اسمها، ما عدا الكيان الصهيوني المحتلّ، فتترك هذه المهمة السياديّة حصراً لشركات احتكاريّة أو لقوى سياسية من داخل الدولة نفسها؟
النتيجة هي أنّ طوابير الذلّ ستستمرّ طويلةً أمام المحطات، وستستمرّ العتمة الكهربائية بشقّيها العام والخاص، وسيختفي الأثر الايجابي المحدود خلال أيام، تماماً كما حصل مع عشرات البواخر التي دخلت البلاد خلال الأسابيع الأخيرة.
لماذا لا تقوم الدولة بعقد اتفاقيات ثنائية رسمية للاستيراد المباشر مع دول أخرى أياً كان اسمها، ما عدا الكيان الصهيوني المحتلّ، فتترك هذه المهمة السياديّة حصراً لشركات احتكاريّة أو لقوى سياسية من داخل الدولة نفسها؟
على المقلب الآخر، تعمل الولايات المتحدة من جهة وبعض الدول الأوروبية من جهة أخرى على إرساء خطوط تمويل مباشرة لا تمرّ من خلال الدولة اللبنانية، تماماً كالباخرة المعلن عنها مؤخراً، لمصلحة قوى ومؤسسات وجمعيات تحظى بمئات ملايين الدولارات، وصارت تقدّم هي تعويضات ترميم واستشفاء وتدريب وتعليم، وتعمل بميزانيات لديها من الدولارات الطازجة ما يكفي لاستقطاب أصحاب الشهادات والمهن والموارد البشرية النوعية، وتسحبهم عملياً من سوق العمل كما من سوق النضال السياسي الضروري اليوم أكثر من أي وقت مضى صوب العمل الاجتماعي المأجور الذي يستوجب الكثير من الصمت عمّا تراه العين ليأكل الفم.
تنفق السفارات هذه الأموال على الجيش والقوى الأمنية لتمكينها من لعب دور حامي النظام بجدارة. غازات مسيلة للدموع وهراوات وبنادق خردقيّة خارقة لحدقات العيون، سيارات إطفاء تظاهرات لا تطفىء حرائق، دورات تدريب وأجهزة تنصّت على المواطنين، ووعود وتركيب طرابيش ودغدغة أحلام قادة أمنيين بالرئاسة أو الوزارة او النيابة. الإعلام هو أكثر المحظيين بهذه “المساعدات” الوافدة خاصة في ظلّ التعتيم الشامل على ميزانيات مؤسسات الاعلام ومصادر تمويلها. تطبّل بعضها لشعارات الشفافية فيما تعتّم هي على كلّ ما له علاقة بمصادر دخلها وحجمه والأهداف المطلوبة منه.
وفي هذا السياق، يبني هذا التمويل دولةً موازية تابعة له داخل حدود الدولة اللبنانية، بشكل أفقي عابر للمؤسسات وللمجتمع ويجعل من نفسه قوّةً متكاملةً بين الأمن والإعلام وبعض الأحزب والمؤسسات الاجتماعية، وبذلك يصبح شريكاً فاعلاً في أي قرار سياسي صغير أو كبير.
وفي السياق عينه، لم تشأ السفيرة الأميركية في عوكر دوروثي شيا أن يمرّ النهار من دون أن يكون لها فيه إطلالة أو تصريح أو موقف، كيف لا وهي المتنطّحة على التلفزيونات وفي الدعايات السياسية المدفوعة، والمتنقلة من منطقة إلى أخرى للقاء المسؤولين، كباراً أم صغاراً كانوا. عملت سريعاً على الإعلان عن امكانية اعفاء لبنان من تبعات العقوبات الاقتصادية على سوريا المرتبطة بقانون قيصر، والسماح باستجرار الطاقة من الأردن عبر سوريا إليه، علماً أن هذا المشروع كان ممكناً منذ سنوات طويلة لكن توقيت إعلان إطلاق سراحه كان بهدف عدم إخلاء الساحة الإعلاميّة للباخرة المقلعة من ايران وحدها، ما فتح شهيّة المنافسة الاعلامية والسياسية من قوى الداخل والخارج على بيع أوهام “مساعدة” لبنان واللبنانيين.
عواصف كثيرة في فنجان واحد، لكنّ العاصفة الوحيدة التي تهمّ هي عاصفة التغيير الجذري الشامل لهذا النظام ومنظومته الحاكمة ورعاته في الخارج، وهي بقدر ما تهمّ بقدر ما زالت بعيدة المنال في حمأة صراعات مشاريع السيطرة والتوسع البعيدة والقريبة
وبعيداً عن سرديات الحصار، تنفق دول الخارج بالفعل أموالاً طائلة في لبنان، كلّ لفريقه وأدواته مهما كلّف الأمر. ولولا هذا الاقتصاد الأسود الوازن الموازي، والفاعل منذ سنين، لانهار اقتصادنا مبكراً. مليارات الدولارات تنفقها بشكل رئيسي الولايات المتحدة وإيران ومن بعدهما السعودية وتركيا وفرنسا ودول عديدة من الاتحاد الأوروبي، ترفع معها فئات اجتماعية وقوى سياسية لبنانية، وتؤمن مصدراً مستداماً يضمن تبعية هذه القوى لداعميها، وترويض شرائح اجتماعية واسعة تعتاش على الدولارات الطازجة والمساعدات الصحية والتعليمية والاجتماعية.
باخرة المازوت ومؤتمر مساعدات باريس في 4 آب/أغسطس الماضي وسماحات السفيرة الأميركية باستجرار الطاقة المصرية عبر الأردن وسوريا، ليست أولى الأموال والسلع المتدفقة من الشرق أو الغرب، ولن تكون آخرها، وهي ليست حتّى ذا وزن مؤثر بالمقارنة مع دفق الأموال والسلع الفعلية التي لا يصرّح عنها في الاعلام والخطابات. وهي بالتأكيد ليست حلاً لأي من مشكلاتنا بل مهدئات بسيطة لها، وليست وسيلة لدعم “لبنان” بل وسيلة لدعم قوى سياسية أو مؤسساتية محدّدة فيه دون غيرها، وليست إعلان محبّة أو تعاطف بل إعلان استتباع لمراكز قرار في الخارج، وليست عاملاً مساعداً للتقدم والتغيير بل عاملاً مساهماً في تكريس نظام الديمقراطية التوافقية وقواه الحاكمة، وبدائل محتملة لها لا تخرج عن مسار الاستبدال الشكلي في الأسماء والوجوه.
ولعلّ أبرز السمات السلبية لهذه المساعدات أنّها الحامي الأمين للمسبّبات الأساسية لانهيارنا، على الأقلّ لجهة إزاحة الأنظار عنها في عزّ الحاجة لمواجهتها، ألا وهي سياسات هذا النظام القائم على التحالف الحديدي بين زعماء ميليشيات الطوائف وقوى السلطة مع رأس المال المصرفي والعقاري والاحتكاري. لقد شفطوا جميعاً بالتكافل والتضامن عشرات مليارات الدولارات من شقاء اللبنانيين وفائض قوة عملهم، سواء من خلال سرقة المال العام في الدولة أو من خلال السياسات النقدية والهندسات المالية، فراكموا الثروة وراكم الشعب البؤس. هذا النموذج الاقتصادي الذي لا ينتج شيئاً، ويمتصّ الأموال المتوفرة وتحويلات العاملين في الخارج إلى القطاع المصرفي وحده لا شريك له، قضى على أي انتاج في كل البلاد، وهجّر الطلاب والعمال والمهنيّين إلى الخارج. هذا هو مصدر بؤسنا، وهم جميعاً حماته.
يعرف جالبو البواخر حجم الأموال المنهوبة من القطاع العام وإلى أين ذهبت، ويعرف مقدمو المساعدات في المؤتمرات الدولية حجم الأموال المهربة إلى الخارج، إلى مصارفهم هم تحديداً ومن هرّبها. لكن الأصبع لن يوضع على الجرح، والقنابل الدخانية الاعلامية والسياسية ستبقى سيّدة الموقف.
حفلات من ذرّ الرماد في العيون، وتنافس على بطولات وهمية زائفة لشدّ العصب. لكنّ السؤال المحوري الذي لا يريد الجميع مواجهته هو لماذا وكيف ولمصلحة من أفلسنا، ومن عليه أن يتحمّل المسؤوليات ويدفع الخسائر وما السبيل للخروج من عنق الزجاجة؟
الحقيقة الثابتة اليوم أنّنا مفلسون، ولا نستطيع شراء المحروقات بكميات كافية لأننا لا نملك الدولارات، ولو كان معنا دولارات لاشترينا بواخر نفط تكفي حاجات البلاد وأكثر.
عواصف كثيرة في فنجان واحد، لكنّ العاصفة الوحيدة التي تهمّ هي عاصفة التغيير الجذري الشامل لهذا النظام ومنظومته الحاكمة ورعاته في الخارج، وهي بقدر ما تهمّ بقدر ما زالت بعيدة المنال في حمأة صراعات مشاريع السيطرة والتوسع البعيدة والقريبة.