إنسَ أنك انسان. قبلت أن تكون حجر نرد، أو ورقة قمار، أو حصاناً في رهان، أو وعاء يسمى رسمياً وطناً. أخرج من أوهامك. إقذفها بحذائك. أنت لم تكن في وطن يوماً. كنت دائماً على درج هابط إلى الأسفل. كنت كأنك لم تكن. شُبّه لك أنك مواطن. أرقى ما بلغته في مسيرتك أنك كنت مسماراً في حذاء زعيم حقير، لا يصوم عن الإرتكاب. كل خطوة إلى الأمام كانت انحناءة إلى الخلف. إذا قررت احصاء تجاربك البريئة أو البذيئة، ستكتشف أنك كنت مُصمَمَاً لتكون إنساناً بنسبة مقبولة. عبث، كنت الغد. لبنانك، ليس لك ولست له ولست منه. سيأتي الوقت لتصدق انك كنت بلا دولة بالمرة. ما كان يمكن لعصابات أن تنجح إلا في غزواتها الطائفية. باهظاً كان دمك في معاركهم. تركوك جثة حية موعودة بختم الخضوع.
لا تقل وداعاً. الوقت توقف. لا أمل في استعادة “أمجاد” الذكريات والعقائد. لبنان، تناوب عليه مغتصبوه، وتركوك، وتركونا، كأولاد زنى. ومن شذّ وعصي، إتهم وعوقب وأذل ودفع إلى العبث. نحن اليوم شعب بالمقلوب. أو، لم نكن مرة شعباً. دائماً، كان “المواطن” مُطارَداً ومَطرُوداً. أغدقت نعم السلطة والمال لسكان الاقفاص الطائفية المتعددة والمتكاثرة. لا جدوى للحبر أبداً، إلا إذا استعمل للبصمة. إعترف أنك كنت بريئاً جداً، وانهم اغتالوا براءتك، عندما زجوك في خانة الكراهية والحقد والانحياز والاصطفاف والارتزاق.. لا تلم نفسك كثيراً، هذا البلد لم يكن بقياس أحلامك ابداً. انه منذور للانحطاط ومخططات البيع والشراء والبلص والارتهان. حكّامه طاردوا الوطن فيه، وحازوا على فلول من الناس، وأذابوهم في عقيدة المذهب والعشيرة والدين والطائفة والشركة و”الحزب” و”التيار”. أخذوك إلى كل الدول. باعوك واشتروك. صادقوا الاعداء، ثم عادوا الاصدقاء. انهم انكح الانتهازيين. ولا واحد منهم ينتمي إلى لبنان. تحت قبعة كل زعيم، صورة زعيم عربي او اوسطي او اميركي او اقليمي.
وهي صور قابلة للتلف والتجديد. بإمكانك أن تختصرهم بما يلي: انهم ينتمون بالشكل فقط إلى الجنس البشري. وأنت الموجود الممتلئ احساساً وشوقاً وعشقاً وطموحاً، لست شيئاً بالمرة. كي يعترفوا بك، يجب الا تكون موجوداً. اكتفِ بوجودهم. أطعهم. امضِ خلفهم. انت رقم في حساباتهم السياسية السافلة.
فات زمن الغضب. الناس تحتفي بدموعها والفقدان. كان يجب أن يكون الكائن اللبناني مختلفاً عما كان. قلة، صارت اقل في ما بعد، راهنت على وطن، على مواطن، على ديموقراطية، ريادة، ثقافة، عدالة، انتاج. خسرت كل ذلك. تفوقت عليها ذئاب الطوائف المعلوفة جيداً والمطيعة جداً والمستعدة لكل الموبقات
أطلَّ الآن من نافذتك. هل عرفت في حياتك مشاهد الذل هذه؟ هل روبصت مرة في مناماتك المدهشة أنك ستفيق غداً وبعده، وعلى مدى شهور، وتكون العاصمة مزبلة. مزبلة من فوق اولاً ومزابل في كل موقع؟ هل ذهب بك تشاؤمك إلى حد أن جماعة ستجثو على صدور اللبنانيين، كل اللبنانيين، باستثناء لصوص المال والدين والسياسة؟ هل ارتسم في لا وعيك أنك ستصبح متسولاً لرغيف، لبنزين، لمازوت، لأرز، لدواء، لهواء، لكل ما هو اساسي لوجودك البيولوجي. اظنك لست من الانبياء، مثلنا جميعاً. وحدهم الانبياء المفقودون، كانوا يعرفون أن ابواب الجحيم ستفتح، فيما قراصنة السياسة والمال والدين، مختلفون على “تأليف” مجموعة مغامرين على طاولة القمار السياسية.. السياسة لعبة قمار وغش وتهميش.
ثم، ألم تسأل نفسك لماذا هذه الاحقاد الباهظة بين اللبنانيين؟ بلى من يستند دائماً إلى ماضيه الدموي، يظل مستعداً ومستفزاً وعدوانياً. ما الذي يجمع الماروني باب اول، مع الماروني باب ثانٍ، مع الماروني الخسع؟ ما الذي يجمع بين هؤلاء الموارنة والسنة. داحس والغبراء، حول حقيبة وزارة الداخلية. السنة تريد الفوز الأبدي والموارنة يريدونها جائزة، تشبه جائزة المالية للثنائي الشيعي. يا للعار! لا يوجد في العالم احط من هذه الحثالات السياسية ابداً. الدروز مكتفون بزعامة تأخذهم في كل الاتجاهات، فيسبقونها. التناقض عقيدة علنية.. اين تجدون قلوبا متحجرة وعقولا سامة، ترى أن شعبها يعاقب منهم، لأنهم لم يحاسبوهم؟ حجم الكراهية المتبادلة بين “السياسيين”، عباقرة التفليسة الأخيرة، لا يقاس إلا بحجم الغنائم فقط، وبرغم احتقارهم لبعضهم، لا يمكنهم أن يمارسوا الطلاق لأن وجود هذا مستمد من وجود ذاك. الكراهية، هي لتوزيعها على “الانصار” والاتباع”. “الصلح سيد الاحكام”، عندما يكونون معاً في مجلس الوزراء، ومجلس النواب، والقضاء، والعسكر، والـ.. والـ.. وكل مفاصل “الدولة” المهركلة والمفلسة.
فات زمن الغضب. الناس تحتفي بدموعها والفقدان. كان يجب أن يكون الكائن اللبناني مختلفاً عما كان. قلة، صارت اقل في ما بعد، راهنت على وطن، على مواطن، على ديموقراطية، على ريادة، على ثقافة، على عدالة، على انتاج، على عمل وعلى.. وعلى.. خسرت كل ذلك. تفوقت عليها ذئاب الطوائف المعلوفة جيداً والمطيعة جداً والمستعدة لكل الموبقات.
لا. ليس هذا ما جنته يداك. هذا من صنع قبضاتهم المدربة على الغدر والسرقة والفوز بالغنيمة. انت بريء جداً. اذاً، لا وطن لك. لا بلد لك. لا اقامة لك. لا كرامة لك، لا عدالة لك.. ليس لك الا ما يعطى لغيرك اولاً، ثم لك اخيراً.
حالياً، لبنان يختفي. هناك لبنان الذي يشبه الشرطوطة الممزقة، والذي سيعاد تسميته “جمهورية”، و”تسوية”، و”ديون مجزية” إلى الآخر معزوفة العار.
الآن، بعد كتابة هذه الاسطر القليلة، غيّرتُ رأيي. لذا، قل وداعاً. ما حدث فاجعة. ما سيحدث: سيعاقب الابرياء، ويتسيّد الاسياد. الكلفة عندهم ليست باهظة ابداً. انهم مستعدون لإقامة بلد أكثر سوءاً من لبنان الماضي. المستقبل البشع امامنا. هذه هي جائزتهم الفضلى.
لذا، قل وداعاً، وقرر الانتماء الحاسم والفاصل للمستقبل بصيغة وطن.
هل هذا مستحيل؟
إن الرهان على هذا المستحيل اقل كلفة من البقاء في هذا الماخور السياسي وهذا الاصطبل الطوائفي.
لذا، مرة أخرى، قل وداعاً.. ومرحبا. سنصنع فجراً بدموعنا ودمائنا وقيمنا. المستقبل قلعتنا التي تستحق أن نقاتل من اجلها. هذه فرصة لرسم مسار لنهايتهم، ولو بعد زمن. إن الأمام ليس فارغاً. نحن سنكون فيه. الرهان صعب، ولكنه يستحق المجازفة الشريفة.
هل هذا الكلام بلا معنى؟
ربما. لكنه أكثر صدقاً من ممتهني الكوارث ومتسلقي العفونة.
يلزم الا نخاف منهم. يلزم أن نخيفهم. الوقت مناسب للبدايات. الهزائم تنجبها المعارك. لا تدعوهم ينامون على ريش نعام. هزوا الأرض تحتهم. هزوا كل شيء يخصهم ولا تخافوا منهم أن كنتم تقدسون الحرية. الاحرار غيّروا التاريخ.