من يتابع ردود بعض الإخوة العرب والفلسطينيين، ممن شككوا بإمكانية أن ينفذ أسرى فلسطينيون عملية كعملية سجن جلبوع، وطرحوا أسئلة عديدة بينها كيفية تمكن هؤلاء الشباب من اختراق كل وسائل الحماية والرقابة في سجن جلبوع، أو “الخزنة” كما يحلو للصهاينة تسميته، تعبيراً عن شدة تأمينه، معتبرين أن هؤلاء الأسرى المساكين الستة قتلوا وأن اليهود يحاولون إخفاء جريمتهم بهذه الفضيحة، لا يمكن إلا أن يستذكر الحوار الذي دار بين رأفت الهجان وبين ضابط المخابرات المصري مصطفى عبد العظيم، عندما كان يهم رأفت بالتوجه نحو “إسرائيل”، وهو لا يخفي رعبه منها!
حينها قال عبد العظيم للهجان “يا عمي إحنا العرب غريبين قوي، إحنا مديين (نعطي) للإسرائيليين القوة بمجرد إحساسنا إنهم شعب لا يقهر”، ثم سأله كيف يرى يهود مصر الذين نشطوا في الوكالة اليهودية، فأجابه رأفت “ولا حاجة”، أجاب بذلك بعد ان تمكن من خداعهم في فترة قياسية. فحدثه عبد العظيم، بأن الصهاينة في فلسطين لا يختلفون كثيراً عن اليهود الناشطين في الوكالة اليهودية في حينه، وهو ما لمسه رأفت الهجان في تجربته الطويلة معهم.
طوال ما يزيد على السبعين عاماً نقيس تجربتنا مع الإحتلال بناء على هزائم الأنظمة العربية معه، ولا يضيف الشعب العربي أبداً هزائم الاحتلال أمام الشعب الفلسطيني إلى المعادلة أبداً.
بنية المجتمع “الإسرائيلي”
وقبل تحليل عملية الأسرى الأخيرة، لا بد من محاولة تشريح مجتمع الكيان “الإسرائيلي” الذي أفرز حارسة البرج النائمة، وموظف مراقبة الكاميرات الذي غفل لمدة 21 دقيقة بالتمام والكمال، وهي المدة التي لزمت أسرانا للفكاك من حفرة الأسر في سجن جلبوع، ولا بد من دراسة المجتمع الذي أفرز حراس السجن الذين لا بد كان لهم دور في تهريب الطمم، الذي تساءل عنه المشككون العرب ممن اعتقدوا أن المجتمع الإسرائيلي جسدٌ واحد!
في دراسة أعدها الباحث الأردني في الدراسات المستقبلية د. وليد عبد الحي بعنوان “مجتمعات الاستعمار الاستيطاني.. إسرائيل نموذجا”، نقرأ الآتي “يُعرِّف علماء الاجتماع الانحراف الاجتماعي social deviance بأنه الخروج الصارخ والمتكرر على مسلمات المنظومة القيمية في مجتمع معين لفظاً أو فعلاً، ويتم قياس الانحراف من خلال ثلاثة مؤشرات هي: درجة التكرار، وَحِدَّة الانحراف، وتنوع أشكاله. وتتمثل أحد أبرز مشكلات المجتمعات الاستيطانية (مثل “إسرائيل”، الولايات المتحدة، وجنوب إفريقيا في فترة التمييز العنصري.. إلخ) في أن تنوع البيئات الاجتماعية التي جاء منها المستوطنون يجعل المنظومة القيمية للمجتمع متضاربة، من حيث ترتيب وتركيب السلم القيمي بشكل عام، وتحديد القيمة العليا في هذه المنظومة بشكل خاص. فالمجتمع الإسرائيلي مثلاً تعود فيه أصول الشرائح “الأكبر” من المجتمع إلى خلفيات متنوعة تنتمي طبقاً للإحصاءات الرسمية الإسرائيلية إلى نحو 46 دولة موزعة في القارات الخمس”.
ما سبق يعني، وفقاً للدراسة أن مصدر الانحراف الاجتماعي والسياسي في المجتمع الإسرائيلي ليس منفصلاً عن عوامل ثلاثة تمجد القوة والعنف، وتُشكل الخلفية الثقافية لكل شريحة من شرائح المجتمع الإسرائيلي.
ما استفاق عليه “الإسرائيليون” صبيحة يوم 6 أيلول/ سبتمبر الحالي إنما هو هزة للقيم التي لم تجد طريقها للمقيم “الإسرائيلي” على أرض فلسطين، وأن الكارثة الحقيقية لا تتمثل بهرب الأسرى الستة بل في “كيفية” هروبهم، وهذا ما لم يخفه المحللون “الإسرائيليون” طوال خمسة أيام، اذ اعترفوا بمشاكل حقيقية داخل السجون، ويمكننا أثناء كتابة هذه السطور أن نقولها بكل أريحية، بان العدو يواجه كارثة فساد في سجونه
وإذا اردنا أن نجعل من اللغة مدخلا لفهم منطق علاقة الصهيوني بدولته، علينا الاستعانة بملاحظة قالها الأديب الفلسطيني سلمان الناطور في محاضرة في جامعة حيفا عندما تناول مفردتين مهمتين، وهما (מוֹלֶדֶת – تُلفظ بالعبرية مولدت، وتعني الوطن) وبين مفردة (מדינה- تُلفظ بالعبرية مِدِيناه وتعني الدولة)، مبيناً أن اليهودي يستخدم دائما لفظة الدولة وليس الوطن، في حين أن فلسطين تعني لملايين الفلسطينيين الذين لم يروها بسبب التهجير، وطناً.
الفرق السابق يجعل المواطن “الإسرائيلي” لا يتردد كثيراً في بيع الأسلحة للمقاومة الفلسطينية، لأن العلاقة التي تربطه بالأرض علاقة مواطن بدولة، يبقى بأمان طالما امتثل لقوانينها، وإن تمكن أن يتهرب من هذه القوانين مقابل تأمين بعض المال من أرض السمن والعسل ويبقى سالما، لا مشكلة لديه.
ما سبق يمكننا من وضع أيدينا على أن ما استفاق عليه “الإسرائيليون” صبيحة يوم 6 أيلول/ سبتمبر الحالي إنما هو هزة للقيم التي لم تجد طريقها للمقيم “الإسرائيلي” على أرض فلسطين، وأن الكارثة الحقيقية لا تتمثل بهرب الأسرى الستة بل في “كيفية” هروبهم، وهذا ما لم يخفه المحللون “الإسرائيليون” طوال خمسة أيام، اذ اعترفوا بمشاكل حقيقية داخل السجون، ويمكننا أثناء كتابة هذه السطور أن نقولها بكل أريحية، بان العدو يواجه كارثة فساد في سجونه.
عملية بلا مساعدة خارجية
حالما أعلن الجيش “الإسرائيلي” عن هروب الأسرى الستة، وأمام التنفيذ المتقن لها، ما كان يمكن إلا التفكير بأن دولة خارجية ساعدت الأسرى بتنفيذ عمليتهم أو على الأقل إحدى حركات المقاومة في الداخل الفلسطيني، لكن بمجرد إلقاء القبض على أربعة منهم حتى الآن، يظهر بوضوح أن هذه العملية النوعية كان أبطالها هؤلاء الستة، وربما حازوا على مساعدة زملائهم في الأسر، من دون أن يؤدي ذلك لأي خرق أمني لهم، وهذا في حد ذاته مهم جداً، ويشكل نقلة نوعية، فقادة السجن في إسرائيل اليوم لا يعلمون ما يجري في سجونهم.
ولو كانت هنالك مساعدة خارجية لتمكنت فعلياً سيارة من اجتياز الخط الأخضر بهم قبل أن يدرك الصهاينة أن الأسرى هربوا، لكن الأسرى قبض عليهم في الداخل الفلسطيني مما يعني أنهم تمكنوا من الهرب مشياً على الأقدام.
وفي ظل التسيب “المنظم” للسجون، نامت المجندة في برج المراقبة في تلك اللحظة كما أن الحارس الذي يراقب كاميرات المراقبة لم يكن موجودا لمدة 21 دقيقة وهي المدة اللازمة لهروب الأسرى، فتكتمل بذلك صورة الصفعة التي تلقاها العدو.
ما سبق يُعدُّ صفعة وكل محاولة للتخفيف مما جرى تُعتبر محاباةً للعدو ليس أكثر، فنحن لسنا أمام عملية قامت بها دول وتنظيمات، بل نحن أمام عملية هروب نوعية قام بها ستة أسرى بإمكاناتهم، ما يعني أن فرضية إختراق السجون الإسرائيلية من قوى اقليمية معادية لإسرائيل كان مفعولها سيكون مختلفاً جداً.
وأما خوف البسطاء على عزيمة الأسرى، فلا بد من الإشارة إلى أنه لو كان تعذيب الأسرى الذين سبقوهم بسنوات أثنى هؤلاء الأسرى عن القيام بهذه العملية الجريئة والتي تكاد تكون محكمة، فإن تعذيب ومعاقبة الأسرى اليوم سوف لن يثني أسرى الغد عن الاستمرار في محاولات انتزاع الحرية.
إن كان الإنسان عموماً محكوماً بالأمل، فإن الشعوب المحتلة محكومة بالحرية دائماً وأبداً.