بعيداً عن الشكوك التي تعبّر عنها وسائل إعلامية دولية حول احتمال اخفاء السلطات الروسية لأعداد المصابين بـ”كورونا”، وهي شكوك باتت تدغدغ العقل الباطن للروس، الذين يعبّر كثير منهم عن مخاوف من هذا القبيل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فإنّ الأرقام الرسمية التي أمكن رصدها عبر خريطة “ياندكس” حتى بعد ظهر اليوم (الخميس) كانت ضمن الحد المقبول: 199 حالة.
في موسكو التي يبلغ عدد سكانها 12.5 مليون نسمة (بكثافة سكانية 4879 نسمة/كلم2)، سُجلت 96 إصابة (يضاف إلى ذلك 17 إصابة في مقاطعة موسكو)؛ في سانت بطرسبورغ التي يبلغ عدد سكانها 5.3 ملايين نسمة (3719 نسمة/كلم2)، سجلت 10 إصابات (حالة الوفاة الأولى كانت اليوم الخميس)؛ في حين تراوحت الأعداد في 23 مقاطعة بين 6 حالات كحد أقصى (في مقاطعة سفيردلوفسك) وبين حالة واحدة في كل من باقي المقاطعات التي سجلت فيها إصابات.
المشاهد التي تنقلها القنوات الفضائية أو تلك المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي للحياة اليومية في روسيا، وكذلك شهادات المقيمين في موسكو وعدد من المدن، تُوحي كأن كل شيء طبيعي، لا بل أن ثمة انطباعاً بأنّ السلطات المحلية لا تقوم بفعل شيء، وهو ما يثير قلق البعض، في حين يرى البعض الآخر هذا الأمر عنصراً جوهرياً في خطة تهدف إلى احتواء “كورونا”، وفي الوقت ذاته عدم إثارة الهلع.
وفي الواقع، فإنّ روسيا كانت من بين أوائل الدول التي اتخذت اجراءات صارمة لمواجهة “كورونا”، وذلك ضمن خطة متدرجة، أخذت في الحسبان سرعة انتشار الوباء عالمياً، والمخاطر المتصلة بعوامل محلية، مناخية في الأساس، بعدما أشارت تقديرات علمية إلى أن درجات الحرارة خلال فصل الربيع في روسيا توفر للفيروس بيئة مناسبة للانتشار.
على هذا الأساس، بادرت روسيا سريعاً إلى إغلاق حدودها البرية مع الصين، التي يبلغ طولها 4209 كيلومتراً مع الصين، منذ بداية انتشار الفيروس في نهاية عام 2019، بجانب الحد من الرحلات بين البلدين تدريجياً، كما أغلقت روسيا حدودها أمام القادمين من إيطاليا، هذا الأسبوع، قبل أن تعلق إصدار التأشيرات للأجانب كإجراء مؤقت.
في موازاة ذلك، وُضعت موسكو، وعدد من المدن، في “حالة تأهب قصوى”، حيث اتخذت إجراءات للحد من التجمعات الكبيرة، فيما طُلب من السكان توخي الحذر اثناء استخدام وسائل النقل العام خلال ساعات الذروة.
كذلك، طلبت السلطات الروسية من العائدين من النقاط الساخنة للفيروس التاجي أن يعزلوا أنفسهم لمدة 14 يوماً، في إطار الحجر الصحي الإلزامي، تحت طائلة مواجهة عقوبة قاسية تصل إلى السجن خمس سنوات.
ولتطبيق هذه الإجراءات، حذرت السلطات الروسية من أنها ستستخدم كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة، وهي فعلت ذلك بالفعل في عدد من الحالات، فعلى سبيل المثال، نقل موقع “ميديا زونا” عن أحد سكان موسكو، الذي تم وضعه في الحجر الصحي بعد عودته من شمال إيطاليا في شباط/فبراير الماضي، أن الشرطة داهمت شقته في اليوم التالي لانتهاكه الحجر الصحي حين غادر المنزل لرمي القمامة، فيما ذكرت صحيفة “كومرسانت” قبل أيام أن قراراً صدر بترحيل نحو مئة طالب صيني لانتهاكهم إجراءات الحجر.
بدوره، تحدث عمدة موسكو سيرغي سوبيانين عن استخدام شبكة التعرف على الوجه المنتشرة في المدينة للمساعدة في تعقب امرأة صينية أتت قدمت إلى موسكو من بكين.
حتى الآن، تتسم الإجراءات الروسية في مواجهة “كورونا” بنوع من “الثبات الانفعالي”، وتتدرّج مع تنامي درجة الخطر، وتشمل على سبيل المثال منع الفعاليات التي يتجاوز عدد المشاركين فيها 50 شخصاً، اقفال المدارس والجامعات حتى 12 نيسان/ابريل المقبل، اعتماد طرق التعليم عن بعد، اصدار تعليمات لأرباب العمل بقياس درجة حرارة الموظفين، في وقت أدخلت بعض الشركات ترتيبات العمل عن بعد حتى قبل الإعلان عن هذه الإجراءات الرسمية.
بالامس، كان فيروس “كورونا” الموضوع الرئيسي لاجتماع فلاديمير بوتين مع كبار المسؤولين في الكرملين.
الرئيس الروسي أكد أنه بالرغم من المستوى المرتفع المحتمل للمخاطر، فإن الوضع في روسيا تحت السيطرة، مشيراً إلى أن المنظمات الطبية والأمنية وغيرها من الخدمات في حالة تأهب قصوى، في وقت تراقب السلطات الفدرالية والإقليمية الموقف ساعة بساعة، وتتخذ القرارات اللازمة. وأشار إلى إنشاء مجلس تنسيق تابع للحكومة وفريق عمل تابع لمجلس الدولة لمكافحة الفيروسات التاجية.
بوتين: بالرغم من المستوى المرتفع المحتمل للمخاطر، فإن الوضع في روسيا تحت السيطرة
وتوجه بوتين إلى المسؤولين الروس بالقول “أطلب منكم أن تستمروا في تعبئة أنفسكم، والعمل بطريقة منسقة ومتماسكة”، مشدداً على إبلاغ الناس بالتطورات، ووضع كافة المعلومات الضرورية بتصرفهم.
في سياق موازٍ، أوعز فلاديمير بوتين بزيادة عدد وسائل الحماية الشخصية وتجديد احتياطيات البلاد من الأدوية والمعدات اللازمة، بجانب إيلاء اهتمام خاص لانتاج وسائل الفحص الكفيلة بالكشف بسرعة عن وجود الفيروس في الجسم.
كذلك، أشار بوتين إلى أن روسيا تعمل بنشاط على اكتشاف لقاح لفيروس “كورونا”، موضحاً أن خبراء من “روسبوتريبنادزور” (الخدمة الفيدرالية الروسية لمراقبة حماية حقوق المستهلك ورفاهية الإنسان)، ومتخصصين من معهد أبحاث اللقاحات والأمصال في سانت بطرسبرغ يعملون على ذلك.
من جهته، أكد السناتور فلاديمير دزاباروف إن الوضع في روسيا مستقر الآن مقارنة بالعديد من الدول الأخرى، حسبما نقلت عنه صحيفة “ايزفستيا”، مضيفاً “اتخذنا في الوقت المناسب تدابير لوقف مختلف الرحلات الجوية من البلدان التي يكون فيها الوضع سيئاً. بالإضافة إلى ذلك، لعب إغلاق الحدود الروسية الصينية في الوقت المناسب دورًا إيجابياً”.
ووفقاً لدزاباروف “من الضروري الآن عدم الاستسلام للذعر، وعدم الاهتمام بالأخبار الكاذبة”.
مواجهة “الأخبار الكاذبة” تحتل حيّزاً واسعة في استراتيجية روسيا لمواجهة “كورونا”. أمس الأول، نشرت “كومرسانت” تحقيقاً موسعاً عن زيارة بوتين ورئيس الحكومة ميخائيل ميتشوستين إلى مركز معلومات مراقبة فيروس “كورونا” في موسكو، الذي يخصص حيزاً واسعاً لمراقبة كافة المعلومات المتعلقة بالفيروس التاجي، بما في ذلك الشبكات الاجتماعية وقنوات “تلغرام”، حيث يقوم فريق بتصنيف الأخبار المتنشرة، وفرزها بين أخبار حقيقية وشائعات يجري التعامل معها بشكل سريع.
الهدف الرئيسي من عملية التتبع المستندة إلى برنامجيات خوارزمية معقدة، هو منع انتقال وباء آخر موازٍ لوباء “كورونا”، وهو وباء الهلع الذي أصاب الملايين حول أنحاء العالم، لا سيما في أوروبا.
هذه الإجراءات يبدو أنها تؤتي فعلها في المجتمع الروسي، وهو ما لحظه موقع “إكسبرت أونلاين” قبل أيام في تقرير تناول عدم ذعر الروس من انتشار فيروس “كورونا”، وعدم تدافعهم إلى المتاجر خوفا من نقص السلع.
وبحسب “اكسبرت اونلاين” فإن 10 في المئة من الروس، ومعظمهم من الجيل الأكبر، يحتاطون لاحتمال تفشي وباء “كورونا” بشراء الحبوب والمعكرونة والسكر والطحين ومواد التنظيف، فيما الغالبية الساحقة لا تخشى من نقص المواد في المتاجر.
ووفقاً للتقرير فإنّ 58 في المئة من المستطلعة آراؤهم أكدوا أن الفيروس لم يغير في حياتهم، فيما أشار الباقون إلى أنهم بدأوا بالفعل في اتخاذ احتياطات مختلفة، ولكن ضمن الحد المعقول: 18 في المئة قللوا من التنقل في وسائل النقل العام، 16 في المئة تخلوا عن السفر، 13 في المئة قللوا من تواصلهم مع محيطهم.
ونقل التقرير عن المسؤول الإداري في وكالة B&C مارك شيرمان قوله إن روسيا غير مهددة بنقص الغذاء، فالصناعات الغذائية أفضل بكثير من غيرها، وسلاسل البيع بالتجزئة متطورة أيضاً، موضحاً “بشكل عام، وضعنا لا يزال أفضل بكثير مما هو عليه في أوروبا”.
بطبيعة الحال، سيؤثر الارتفاع اليومي لعدد المصابين، بجانب الذعر العالمي، على العقل الباطن للروس، الذين تتنامى لديهم نزعة الاستعداد للسيناريوهات الصعبة، بما في ذلك تخزين الغذاء وما عداه من مواد استهلاكية، ومع ذلك، فإنّ التقارير التي تلقاها بوتين، أمس، بحسب ما نشرت الصحافة الروسية، تؤكد أن توريد المنتجات إلى السوق الروسية مستقر تماماً.
علاوة على ذلك، بمساعدة كاميرات المراقبة المثبتة في المتاجر، والفرق المختصة التي تقوم بزيارات دورية ومكثفة للمستودعات ومنافذ البيع بالتجزئة، يتم إجراء مراقبة مستمرة للأسعار ولتوافر سلع معينة.
هذا الأمر يشرحه شيرمان بالقول: سيراقب الناس دينامية العدوى والتدابير التي يتم اتخاذها لاحتواء الخطر، سواء من الناحية الطبية أو من حيث العواقب على الأعمال التجارية قبل أن يعدّلوا سلوكهم على أساس ذلك.