رحل ميكيس ثيودوراكيس عن عمر ناهز 96 عاماً، حيث شغل العالم خبر موته، وهو الذي شغله حياً من خلال روائعه الموسيقية في مواجهة الاحتلال الفاشي الايطالي لوطنه ومن بعده في مواجهة الاحتلال الالماني ومن ثم الحكم العسكري اليوناني. تعرض للاعتقال والتعذيب أكثر من مرة وآخرها كان اعتقاله وسجنه ومنع كل اعماله في فترة حكم جنرلات اليونان لكنهم اجبروا على اطلاق سراحه في شهر اب/أغسطس 1968 تحت ضغط الحملة العالمية للافراج عنه وتم ترحيله الى فرنسا. عقد العزم على مقاومة الحكم العسكري حتى اسقاطه، فجاب العالم مقدماً حفلاته الموسيقية الحاشدة من اجل الديموقراطية في اليونان، حتى انهيار النظام العسكري وسقوطه عام 1974.
***
كان هدف زيارة ثيودوراكيس الى بيروت في العام 1982 هو التضامن مع الحزب الشيوعي اللبناني والحركة الوطنية، وكذلك مع الشعب الفلسطيني ومن اجل تقديم النشيد الوطني الفلسطيني الذي ألّف موسيقاه. كانت ترتيبات الزيارة تتم معي كممثل للحزب وللحركة الوطنية في اليونان ومع ثيودوراكيس والحزب الشيوعي اليوناني ممثلاً بجورج بابابترو عضو اللجنة المركزية وعضو لجنة العلاقات الخارجية. وتم الاتفاق على تقديم حفلة موسيقية على مسرح قصر البيكاديلي تحييها المغنية اليونانية ماريا فارندوري ذات الشهرة العالمية وعدد من المغنين الآخرين وفرقة موسيقية يونانية تضم العديد من الموسيقيين بقيادة الموسيقار ثيودوراكيس.
كان ميشال اده وزيراً للإعلام في حينه (عهد إلياس سركيس) وأصر على ان تستضيف الوزارة ثيودوراكيس والفرقة اثناء إقامتهم في بيروت، وهذا ما حصل، حيث اقام الجميع في فندق السمرلاند الشهير.
كانت زيارة سياسية – فنية من اهم محطاتها جولة لثيودوراكيس رافقه فيها الرفيق كريم مروة على بعض المواقع العسكرية للحزب في حينه قرب قلعة الشقيف لتعذر الوصول اليها، فزرنا مواقع في يحمر والبلدات المجاورة. وفي طريق العودة، كان لنا لقاء مع قيادة القوات المشتركة في الجنوب، في صيدا، بحضور القائد الميداني الفلسطيني آنذاك الحاج اسماعيل حيث اتحفنا بخطاب ثوري ناري نال استحسان ثيودوراكيس وإعجابه.
المحطة الثانية كانت زيارة المجلس الوطني الفلسطيني في بيروت (الفاكهاني) حيث تسلم ياسر عرفات النشيد الوطني الفلسطيني وسمعناه جميعاً للمرة الاولى من خلال شريط تسجيل (كاسيت)، حيث وقف اعضاء المجلس مصفقين لدقائق، كما تم عقد العديد من اللقاءت السياسية والفنية والثقافية.
***
الاهم في الجانب الفني كانت حفلة البيكادلي المقررة مساء 26 شباط/فبراير 1982، لكن وقبل الحفلة بساعات تبلغنا بأن الرفيق الشهيد جورج حاوي (أبو أنيس) كان على متن طائرة كويتية جرى خطفها على مدرج مطار بيروت. اجتمعنا مع الرفيق بابابترو لمناقشة الموضوع، وتشارونا: هل نخبره قبل الحفلة ام بعدها؟ كنا نخشى ردة فعله وأن يطلب إلغاء او تأجيل الحفلة، وإن لم نفعل من الممكن ان يكون جو الحضور سلبياً، خاصة ان الحزب الشيوعي كان في حالة استنفار قصوى.
اخيراً جلسنا معه قبل بدء الحفلة بقليل وبعد اتضاح الصورة جزئياً لنا بأن الرفيق جورج لم يكن المستهدف، إنما هي عملية خطف كانت تهدف للمطالبة بمعرفة مصير الامام السيد موسى الصدر. اخبرناه وكانت ردة فعله كما توقعنا: نهض من مقعده طالباً الغاء الحفلة واحضار سيارة للذهاب الى المطار لمفاوضة الخاطفين، وبعد أخذ ورد طويلين، قلنا له “بعد انتهاء الحفلة تذهب الى المطار”.. فوافق على مضض.
كانت الحفلة مميزة بكل المقاييس. اتحفنا بموسيقى واغانٍ رائعة وزاد من روعتها اداء ماريا وصوتها وكذلك اداء ثيودوراكيس واقفا بقامته المديدة محركاً ذراعيه وهو يقود الموسيقيين في مشهد رائع متناغم وجميل. كان الجمهور في غاية الانسجام برغم الظروف التي نمر بها، خاصة السيارات المفخخة التي انفجرت في المنطقة (الغربية من بيروت) في اليوم السابق اثناء ذهابنا الى البيكادلي (الحمراء) للتمرين، ما ادى الى حالة خوف شديد عند ماريا منعها من الغناء في حينه.
عود على بدء، مع ثيودوراكيس، انتهت الحفلة وطلب السيارة، عندها اخبرناه بالمستجدات وبأن جورج لم يعد مخطوفاً بل هو كان من رفض مغادرة الطائرة قبل اطلاق سراح جميع من كانوا على متنها وهو باق هناك كمفاوض، وان وزير الإعلام ميشال إده اتفق معنا على العشاء سوية فمن المعيب ان يغادر وان لا فائدة من مغادرته. اقتنع اخيراً وجلسنا الى مائدة العشاء مع ميشال اده بحضور الرفيق كريم مروة وبابترو وكانت جلسة ممتعة.
بعد اتضاح الصورة جزئياً لنا بأن الرفيق جورج لم يكن المستهدف، إنما هي عملية خطف كانت تهدف للمطالبة بمعرفة مصير الامام السيد موسى الصدر. اخبرناه وكانت ردة فعله كما توقعنا: نهض من مقعده طالباً الغاء الحفلة واحضار سيارة للذهاب الى المطار لمفاوضة الخاطفين، وبعد أخذ ورد طويلين، قلنا له “بعد انتهاء الحفلة تذهب الى المطار”
قبل مغادرته الى غرفته في الفندق، قال لي ثيودوراكيس “لا يهمني الوقت عند انتهاء العملية ايقظني واخبرني” وهذا ما حصل. فعند الساعة الثانية بعد منتصف الليل وبينما كنت مع الرفاق من المرافقة والحماية (وبعد وليمة دسمة كانوا قد طلبوها من الفندق وبعد سؤالي للوزير إده أن يكونوا جزءاً من عزيمة وزارة الإعلام) جاء الخبر عبر جهاز اللاسلكي بأن الرفيق جورج اصبح في مركز الحزب (الطريق الجديدة، شارع عفيف الطيبي). ذهبت الى “ميكي” وايقظته واخبرته، ففرح وطلب مني لقاء جورج في الصباح، فقلت له بالتأكيد، وبالفعل ذهبنا صباحاً الى مركز الحزب (كان يُدعى “القصر”) والتقى “ميكي” بجورج وعدد من قيادات الحزب، وفي اليوم التالي غادر مع الفرقة الى اليونان.
***
بعد زيارته الى بيروت في شباط /فبراير 1982، تسارعت الاحداث في لبنان، وبدأ العدوان الاسرائيلي وصولاً إلى الاجتياح في حزيران/يونيو 1982. فبدأنا حملات في الخارج لحشد التضامن الدولي مع لبنان، وكان لليونان نصيب كبير من ذلك. كان ميكيس ثيودوراكيس دائم الحضور في الفعاليات التي كانت تقام في اليونان، كيف لا وهو العائد من زيارة تضامنية إلى بيروت منذ عدة أشهر فقط، وخبر خلالها معاناة شعبنا من خلال الجولات الميدانية التي قام بها.
ومع اقتراب العدوان الإسرائيلي من بيروت، أخذنا توجهاً في الحزب الشيوعي بمحاولة حشد أكبر عدد ممكن من الشخصيات العالمية الوازنة وادخالها الى بيروت، كي يساهم وجودها في ردع العدوان وتشكيل درع بشري عالمي يحمي المدينة او الأصح يُصعّب على المعتدي الاستباحة الكاملة لكل المعاهدات والمواثيق التي تؤمن الحماية للمدنيين.
في اليونان كان ثيودوراكيس أول خياراتنا. تم الاتصال بالرفاق في الحزب الشيوعي اليوناني، ونقل الامين العام للحزب آنذاك خاريلاوس فلوراكيس رغبتنا وكذلك رغبة القوى والفصائل الفلسطينية، فجاء رد ثيودوراكيس بالموافقة الكاملة من دون تردد.
***
خلال التنسيق معه للتحضير لرحلته الى بيروت عبر مطار دمشق، استفسر مني عن عدد من القضايا وكذلك آخر التطورات الميدانية، لكن ما استوقفني وأحرجني كان سؤاله عن قائد القوات المشتركة في الجنوب الحاج اسماعيل الذي اجتمعنا به وبقيادة القوات المشتركة في صيدا قبل عدة أشهر اثناء زيارته الأولى الى لبنان ولفته حينذاك خطابه الثوري واناقته العسكرية، وعبّر لي عن اعجابه به، قائلاً لي باليونانية بما معناه “هيدا قبضاي”. كان يستفسر مني عن احواله، وما فعل في المعارك، وهل قاتل جيداً ضد العدو. فكرت ملياً قبل الاجابة، خاصة ان الاخبار التي كانت بحوزتي مقلقة وهي تتمحور حول إنسحابه أو هروبه عند بدء العدوان، ما أدى إلى محاكمته لاحقاً من جانب منظمة التحرير الفلسطينية. بماذا أجيب رجل نريد إرساله الى قلب الحصار ليقف معنا معرضاً حياته للخطر، بينما الحاج اسماعيل فعل ما فعل؟
حسمت أمري على مضض وأجبته انه بخير وموجود في بيروت، واسرعت في تغيير وجهة الحديث كي لا احرج نفسي اكثر أمامه.
***
غادر “ميكي” اثينا الى دمشق يرافقه الرفيق جورج ديلاستيك، الصحافي في جريدة “ريزوسباستيس” اليونانية. جرى استقباله في دمشق ووضعناه في صورة الاوضاع العسكرية المتغيرة، وخلال اول محاولة للذهاب الى بيروت تبين لنا بأن الطريق (دمشق ـ بيروت) أصبح مقطوعاً بفعل القصف، لكن ثيودوراكيس، وكما اعرفه، كان مصراً على الدخول الى بيروت وبأي ثمن. دارت نقاشات طويلة معه لكن إصراره اجبرنا نحن وممثلي منظمة التحرير الفلسطينية على القيام بمحاولة ثانية عبر الشمال اللبناني، فذهب براً من سوريا (منطقة حمص) الى طرابلس وعند تقييم الوضعن كان هناك اجماع على عدم امكانية الدخول الى بيروت من اي نقطة بفعل تقدم الاجتياح والحصار على العاصمة من كل الجهات. عندما تمّ إبلاغه بذلك استشاط غضباً وعاد الى دمشق منزعجاً، وقبل عودته الى اثينا عقد عدداً من اللقاءات السياسية مع حزبنا ومع منظمة التحرير، وكان معي في تلك الفترة القيادي الشيوعي اليوناني جورج باباترو حيث تابعنا كل تفاصيل هذه الزيارة.
***
عند عودته إلى اليونان، وفور وصوله الى أثينا، ذهبت مع جورج باباترو للقائه، وكنا على علم بغضبه وعدم رضاه عما حصل، وما ان وصلنا حتى صب جام غضبه علينا، ومن جملة ما قاله لنا، في ذروة غضبه، أننا نسجنا (أي قيادة الحزب الشيوعي اللبناني والحزب الشيوعي اليوناني) مؤامرة ضده كي لا يدخل بيروت حرصاً على حياته لان الامور كانت تتدهور بسرعة قياسية، ونعتنا شخصياً بنعوت قاسية ولكننا كنا نعرف شخصيته وطيبته ونتفهم خيبته، كيف لا وهو الذي وضع دمه على كفه وكان مستعداً لدخول بيروت ولو كلّفه ذلك حياته.
بعد شرح ومصارحة في ما بيننا، وبعد ارتشاف قهوتنا، عادت الامور الى مجاريها، وعاد “ميكي” إلى هدوئه.
***
مهما كتبنا عن ذلك العملاق الثوري يبقى ناقصاً، فهو كان شجاعاً، بسيطاً، حالماً، صادقاً، مباشراً. كتبت هذه الكلمات لعلنا نرد له جزءاً مما له علينا وله علينا الكثير.
ترحل الآن هذه القامات العملاقة، والعالم يتغير، لكن هل يبقى فيه القليل من أولئك؟
لقد كتبت عن ميكيس ثيودوراكيس من خلال علاقتي ومعرفتي به ضمن إطار المهام التي كنت اقوم بها في اليونان كممثل للحزب الشيوعي اليوناني ومن ثم كممثل للحركة الوطنية اللبنانية في عقد الثمانينيات الماضية ولكن غنى شخصيته وابداعاته الموسيقية تستحق وقفة أخرى.
في الختام، اورد ما جاء في وصيته الاخيرة الموجهة الى الحزب الشيوعي اليوناني، والتي كتبها قبل أشهر من وفاته، وفيها ما يلي:
“الآن في نهاية حياتي، عند جردة حسابي تزول من عقلي التفاصيل الصغيرة وتبقى القضايا الكبيرة. هكذا أرى أحرج وأقوى وأنضج سنواتي هي التي امضيتها تحت علم الحزب الشيوعي اليوناني. لهذه الأسباب أريد أن اغادر هذا العالم شيوعياً”.
وداعاً أيها اليونانيّ الكريتيّ الجميل الأصيل.
(*) بالتزامن مع مجلة وموقع “النداء“