من كان ليصدق أنه وقبل ثلاثة أعوام ونصف العام، أن نشهد محاولة انقلاب سياسى فى الولايات المتحدة؟ ذهلت كما ذهل الشعب الأمريكى مما شاهدناه يحدث يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021. لم يعرف التاريخ الأمريكى الممتد على مدى 250 عاما يوما واحدا بقوة وجسامة ما شهده مبنى الكابيتول، من اقتحام المئات من أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب لجلسة مجلسى النواب والشيوخ المشتركة للتصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية 2020، والتى انتهت بفوز الرئيس الديموقراطى الجديد، آنذاك، جو بايدن.
على عكس الأزمات الخطيرة التى عرفتها أمريكا فى العقود الأخيرة، ضربت أحداث 6 يناير/كانون الثاني الديموقراطية الأمريكية فى قلبها مع رفض رئيس منتخب نتائج انتخابات خسرها، بل تمادى وأكد أنها مزورة بدون أن يقدم دليلا ملموسا على ذلك، رغم رفض عشرات المحاكم المختلفة ادعاءات الرئيس السابق ترامب. يزيد من خطورة الموضوع إيمان عشرات الملايين من أنصاره الجمهوريين حتى الآن أن الانتخابات سُرقت منه.
***
من كان ليصدق أن ترامب سيترشح للمرة الثالثة على التوالى؟ لقد عاد ترامب مرشحا رئاسيا للمرة الثالثة ساعيا لدخول البيت الأبيض لفترة حكم ثانية، واكتسح فى طريقه كل المرشحين الجمهوريين ممن هاجموه واعتبروه عبئا على الحزب الجمهورى، وأن هناك حاجة لطى صفحته بصورة كاملة. تحدث كل أعداء ترامب السابقين داخل المعسكر الجمهورى فى مؤتمر الحزب، وقدموا جميعهم فروض الولاء والطاعة لترامب بعدما اتهمه منافسوه الجمهوريون بالتهور والجهل والسقوط الأخلاقى وإحداث الفوضى، إلا أن الحزب أظهر وحدة نادرة خلف ترامب.
من كان ليصدق أن الأمريكيين والأمريكيات سيضطرون للاختيار بين مرشحين؛ أحدهما، من جانب، رجل مسن تخطى الثمانين ويريد أن يحكم حتى الــ86 من العمر برغم تدهور قدراته العقلية والذهنية بصورة لا يمكن توقيفها، ومن جانب آخر، مرشح مدان جنائيا بـ34 تهمة وينتظر أن يتم الحكم عليه خلال أسابيع؟
من كان ليصدق أن أغلبية ضخمة من الحزب الجمهورى ممن تحدثت خلال أيام المؤتمر تؤمن لحد اليقين أن الدولة الأمريكية العميقة، ممثلة فى أجهزة الاستخبارات ومكتب التحقيق الفيدرالى (إف. بى. أى)، هى من تقف خلف محاولة اغتيال دونالد ترامب؟
من كان ليصدق أن العالم سيشهد مرشحا رئاسيا يسعى لقيادة أمريكا والعالم ولا يستطيع أن يُكمل جملة، ويرتبك ويخلط أسماء الرؤساء والدول، بما يسبب إحراجا كبيرا لمنظومة الحكم الأمريكية؟
من كان ليصدق أن بايدن سيصمم على التمسك بالترشح فى حالة غريبة من العناد الجيلى، على الرغم من الأداء الكارثى له فى المناظرة الرئاسية أمام ترامب قبل نهاية الشهر الماضى؟
***
على مدى الأسابيع الثلاثة الأخيرة، سعى بايدن بكل الطرق الممكنة إلى استرجاع الثقة التى فقدها بين ملايين الأمريكيين والأمريكيات ممن شاهدوا المناظرة، إلا أن جهوده لم يُكتب لها النجاح كما تُظهر استطلاعات الرأى. ثم من كان ليصدق عجز الحزب الديموقراطى عن الضغط على بايدن لينسحب من السباق حفظا لماء الوجه؟
ومن كان ليصدق أن الرئيس الأمريكى الأسبق، باراك أوباما، الذى اختار بايدن نائبا له، وتسبب فى وصوله للبيت الأبيض، سيقف عاجزا برغم إيمانه باستحالة انتصاره على ترامب، ومع إدراكه حجم التدهور الذهنى الذى يضرب بايدن؟
***
من كان ليصدق أن رئيسا سابقا، ومرشحا متقدما فى سباق انتخابات العام الرئاسية، يمكن أن يُغتال بطريقة بسيطة وغير مكلفة؟ كيف لشاب عشرينى من العمر يحمل بندقية قنص نصف آلية أن يصعد لأعلى مبنى لا يبعد عن منصة يتحدث منها ترامب بأقل من مائة متر، متخطيا كل الحواجز الأمنية والترتيبات المسبقة والتى تحدث بطريقة روتينية؟ نجا ترامب من الموت بمعجزة حيث تحرك للنظر إلى إحدى اللوحات أثناء خطابه، وهو ما أدى فقط أن تصيب الرصاصة جزءا من أذنه اليمنى!
من كان ليصدق أنه ــ وخلال ساعات ــ عقب إطلاق النار عليه، يصل إلى ملايين الأمريكيين والأمريكيات رسائل إلكترونية من حملة الرئيس ترامب يقول فيها «شكرا للجميع على صلواتكم أمس، فالله وحده هو الذى منع حدوث ما لا يمكن تصوره. لن نخاف، وبدلا من ذلك سنبقى متحدين فى وجه الشر. صلواتنا وحبنا للضحايا الآخرين وعائلاتهم. نصلى من أجل شفاء الجرحى، ونحمل فى قلوبنا ذكرى المواطن الذى قتل بشكل فظيع».
ثم أضاف ترامب «أنا حقا أحب بلدنا، وأحبكم جميعا، وأتطلع إلى التحدث إلى أمتنا العظيمة هذا الأسبوع من ولاية ويسكونسن. تذكروا هذا: معا سنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى». ثم أرسلت الحملة رسالة أخرى بتوقيعه جاء فيها «لن أستسلم أبدا».
من كان ليصدق أن صورة ترامب الأيقونية وهو يرفع قبضة يده اليمنى بإشارة التحدى والانتصار بينما وجهه ملطخ بالدماء وينزف من جهة أذنه اليمنى، وأفراد الخدمة السرية يسحبونه بسرعة، ستكون صورة العام وصورة حملة إعادة انتخابه؟
***
من كان ليصدق أن أغلبية ضخمة من الحزب الجمهورى ممن تحدثت خلال أيام المؤتمر تؤمن لحد اليقين أن الدولة الأمريكية العميقة، ممثلة فى أجهزة الاستخبارات ومكتب التحقيق الفيدرالى (إف. بى. أى)، هى من تقف خلف محاولة اغتيال دونالد ترامب؟
ومن كان ليصدق أن ترامب، الملياردير ابن الملياردير، سيختار دى جى فانس، الذى يمثل النقيض لترامب فى كل شىء من نشأته المتواضعة فى عائلة مفككة ضربها الجهل والفقر والإدمان؟ ومن كان ليصدق أن يختار ترامب، إلى حد كبير، رئيس أمريكا المستقبلى، وما يعنيه ذلك من أن يكون اسم سيدة أمريكا الأولى، أوشا تشيلوكورى، التى هاجر والداها من الهند قبل أربعة عقود.
(*) بالتزامن مع “الشروق“