لم تشهدْ نظريّةُ الأحزمة الأمنية، منذ السبعينيّات الماضية، تخصيباً عالياَ، مثلما تشهدُه حالياً على المستويات الأميركية والإسرائيليّة والتركية، بعدما اهتزَّ نسبيَّاً الدور الإيراني إثر الحرب الإسرائيلية على غزَّة ثمَّ على لبنان، فالتهبت مجدداً الشهوة التركية.
نحتاج إلى رَويَّةٍ عميقة، كي ننظر إلى الأمور بعقلانيةٍ، وبواقعيةٍ تجاوزيّةٍ، لا تبريريةٍ ولا انهزاميةٍ، كي نفهمَ مآلَ لبنان بعد الحربِ الأخيرة، وكي نتفحَّصَ خريطةَ القوى “المحليَّة” التي لا تليقُ بها هذه التسميةُ كون معظمِها يطمحُ إلى اِرتهانٍ خارجيّ.
هذه القوى، ما زالت ترى، أنَّ خوضَ تجربةٍ وطنيةٍ مدنيةٍ خارج المرض الطائفي، تمثِّلُ خطراً على نفوذها السلطوي، وهْيَ دأبتْ على ذلك – (على الأقلّ) – منذ اختلاق الكيان المسمَّى “دولة لبنان الكبير” عام 1920. كان ذلك صفقةً فرنسية – بريطانية، وكانت الوكالة اليهودية حاضرةً ضمنها في كل محطاتها.. وهي ما زالت فاعلة حتى اللحظة مع تغيُّر الدوريْن الفرنسي والبريطاني لمصلحة العصر الأميركي.
لن نعود في التاريخ بعيداً. لبنان منذ نحو قرنين، (في مرحلة القائمقاميتين) هو كيانٌ وظيفيٌّ باستبطانٍ طائفيّ. لم يكن وطناً ولا دولة بل كان، وما زال، كياناً تتقاطع فيه وعليه سلطات داخلية – خارجية، وغالبية قواه المسماة محلية تتبنَّى الارتهان والانهزامية تحت شعار الواقعية، وتعتمدُ سياسة سامَّةً تقوم على مقولة: “لبنان لا يُحكَم إلا من خارج”.
هذه المقولة لا تبني وطناً ولا دولةً ، بل تجعلنا نتردَّى في كيانٍ قلِقٍ مهزوزٍ، يمكنُ في أيِّ لحظةٍ أنْ يعود صغيراً، بعد أنْ كانوا قد أعلنوه كبيراً، كما يمكن أن يتحوَّلَ إلى “لُبنانات” في ظلِّ الحروب الاستراتيجية الإسرائيلية المندرجة في سياق نظرية الأحزمة الأمنية التي تُهدِّدُ المنطقة: من شمال العراق إلى شمال سوريا، إلى جنوب سوريا وجنوب لبنان، إلى تطويق سواحل الشام، وإلى اليمن وبحر العرب ومداخل البحر الأحمر.
هذا الغليان الاستراتيجي يُحْدِقُ كلُّه بلبنان؛ فكيف يفكِّرُ معظمُ القوى المسمَّاة محلية بالمصير القريب والبعيد؟ العدوانُ الإسرائيلي الأخير ضد لبنان مزَّقَ الأقنعة عن وجوه كثير من هذه القوى التي أخرجتْ إلى العلن نيّتَها أن تكون أدواتٍ في خريطةٍ استراتيجيةٍ جديدةٍ في الشرق، كما أظهرت أنياباً طائفية – عنصرية مسنونة، وأسقطت كلَّ أقنعتها في الحديث عن الوحدة الوطنية، كأنَّها تولَّتِ القصف على المجتمع مثلما يقصف العدوُّ الإسرائيلي الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية وغيرها من مناطق لبنان، ومعابر التواصل البري مع سوريا.
لن تكون مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار أقلَّ خطورةً من الحرب نفسها، فالاحتلال يسعى بكلِّ ما يستطيع إلى نسف الاتفاق والعودة إلى سياسة الاغتيالات. وهكذا فإنَّ كلَّ شيءٍ مهدَّدٌ: من وحدة لبنان إلى الملَفِّ الرئاسي، إلى دور الجيش اللبناني، إلى خطط إعادة الإعمار، إلى حقل التأثُّر بما يجري في سوريا فوحدةُ كلٍّ من البلدين في خطر
لقد أصرَّتْ هذه القوى على نقطتين هما تشويه الحقائق؛ وتأكيد الاستعداد الأدواتي. وهاتان النقطتان تظهران في ما يأتي:
- سعْيُ بعض القوى المحلية إلى شيْطنة المقاومة وتبرئةُ إسرائيل في العدوان الإسرائيلي – الأميركي – الغربي على لبنان، وهو العدوان الحادي عشر منذ العام 1948. (على سبيل المثال: هل كانت المقاومة موجودة في مطار بيروت عندما أغارت عليه إسرائيل عام 1968؟) .
- التسليم المطلق بفكرة الاحتلال وثقافته، والرفض المطلق لمبدأ المقاومة كلّيّاً.
- تشويه مفهوم الوحدة الوطنية، وإلباسه لَبوس الطوائف، فهذه القوى التي تُشيْطِنُ المقاومة لا ترى في لبنان ساحة وطنية بل ساحات طوائف تركيبية على طريقة “البازل” ولكلِّ ساحةٍ راعٍ خارجي.
- ما زالت عقدة مؤتمر الصلح عام 1919 تتحكَّم بهذه القوى. آنذاك تم الاتفاق على إنشاء كيان في لبنان يكون حليفاً للكيان الإسرائيلي المرتقب بعد نصف قرن. وهذه العقدة قائمة حتى الآن وتُعبِّرُ عن نفسِها في عدد من التصريحات السياسية بين حينٍ وآخر.
- العدوان الإسرائيلي الأخير، هو جزء من سلسلة الاعتداءات الأحدَ عشرَ التي تهدف إلى التلاقي مع هذه القوى المذكورة آنفاً، وتدمير لبنان وإعادة تركيبه وتكريسه “كياناً وظيفياً” في مصلحة إسرائيل والغرب.
- ظنَّتْ هذه القوى أنَّ المقاومة هُزِمت، وتوهَّمتْ أنَّها تستطيعُ توظيف هذا الوهم في خدمة مشروعها السلطوي.
انطلاقاً ممَّا سبق، لن تكون مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار أقلَّ خطورةً من الحرب نفسها، فالاحتلال الإسرائيلي يستفيد من أطاريح هذه القوى المشار إليها أعلاه، ويسعى بكلِّ ما يستطيع إلى نسف الاتفاق وإلى العودة إلى سياسة الاغتيالات. وهكذا فإنَّ كلَّ شيءٍ مهدَّدٌ: من وحدة لبنان إلى الملَفِّ الرئاسي، إلى دور الجيش اللبناني، إلى خطط إعادة الإعمار، إلى حقل التأثُّر بما يجري في سوريا فوحدةُ كلٍّ من البلدين في خطر.
أمام هذا الواقع المعقَّد، تحتاج القوى اللبنانية التي ترفض الاحتلال والارتهان إلى إعادة النظر في أساليبها، وإلى وضعِ أسسٍ جديدة وعملية لفكرة الوحدة الوطنية من أجل الابتعاد عن التقسيم تحت عنوان الفدرلة، وإلَّا فإنَّ الخراب الأوسع آتٍ.. حمى الله لبنان.