“ملف الجماجم”.. حكايات قتل وفساد مرعبة في إسرائيل (53)

في هذا الفصل من كتابه "انهض واقتل اولا، التاريخ السري لعمليات الإغتيال الإسرائيلية"، يواصل الكاتب "الإسرائيلي" رونين بيرغمان سرد روايته الموثقة عن تآمر قائد جهاز "الشين بيت" إبراهام شالوم وكبار ضباطه للتنصل من جريمة قتل الأسيرين الفلسطينيين (أبناء العم أبو جمعة) بعد اعتقالهما في العام 1984.

يقول رونين بيرغمان ان لجنة التحقيق وجدت في شهادة رئيس جهاز “الشين بيت” إبراهام شالوم امامها مصداقية كاملة، كما وجدت ان شهادة العميد في الجيش إسحاق موردخاي وزعمه انه لم يكن الشخص الذي قتل الاسيرين “لا تتلاءم في أجزاء منها مع ما ادلى به عدد من الشهود ولو انها مدعومة بشهادات آخرين في بعض أجزائها”، وهكذا فان اللجنة لم تحدد من قتل الاسيرين أبو جمعة بل اوصت ان تقوم الشرطة العسكرية بإجراء تحقيق مع موردخاي، وقد أدت هذه التوصية الى خضوع الأخير إلى لائحة اتهام طويلة تتضمن تهمة القتل المتعمد. وفي يوليو/تموز عام 1985 توصلت لجنة التحقيق في وزارة العدل الى الاستنتاج نفسه. وهكذا فقد نجحت خطة شالوم بان يحاكم رجل بريء على جرائم ارتكبها هو، على حد تعبير بيرغمان.

ينقل بيرغمان عن رئيس أركان الجيش “الإسرائيلي” السابق ايهود باراك قوله “لو كان أي شخص مكان موردخاي لكان قتل نفسه”، فيما ينقل عن موردخاي قوله “لقد عشت وعائلتي عامين من الجحيم”، ولكن لحسن حظ موردخاي فان محامياً عسكرياً شاباً ونشيطاً يدعى مناحيم فينكلشتاين كان يحتل منصب المندوب العسكري في لجنة التحقيق التابعة لوزارة العدل واصبح من ضمن الذين سيقررون ما اذا كان موردخاي سيدان ام لا.

فينكلشتاين، “اليهودي المتعصب الذي يفرد جدائل شعره تيمناً بالتلمود والذي أصبح لاحقاً قاضياً محترماً في احدى المقاطعات، وبعد ان تفقد الأدلة بدقة وعمق، شعر ان امراً ما في الأدلة لم يكن على ما يرام”، وينقل عنه بيرغمان قوله “ان شهادات عناصر الشين بيت كانت بينة وجلية ولم يكن أحد ليتصور ان أياً منهم يكذب، ولكن هذه المحاولة بإلقاء اللوم على موردخاي بدت لي غريبة جدا. وقد اعترف موردخاي انه عندما اخرج أبناء العم أبو جمعة من الحافلة ضرب كلاً منهما مرة واحدة، وبمراجعة الأدلة بعناية يتبين ان الاسيرين تم تسليمهما الى عناصر الشين بيت بوضع صحي بعيدا كل البعد عما افاد به رجال الشين بيت”. وهكذا فقد قاتل فينكلشتاين بشدة بوجه “الشين بيت” ولجنة التحقيق في وزارة العدل اللذين كانا يحاولان دفع موردخاي الى المحاكمة بتهمة القتل المتعمد وتمكن من اصدار افادة من التحقيق الجنائي تقول انه لا إمكانية لان تكون صفعات موردخاي مسؤولة عن قتل أبناء العم ابو جمعة اللذين بدا أحدهما في الصورة التي اخذها المصور الصحافي ليفاك بصحة جيدة.

ينقل بيرغمان عن النائب الثاني للمدعي العام يهوديت كارب قوله “لقد شعرت وكأن السماء سقطت على الأرض، اذ لا يمكن ان يكون هناك مبالغة في وصف ما جرى، انه استخفاف شامل بسلطة القانون وقواعده وفساد في كامل النظام، لا اذكر انه مرّ امامي حادث بمثل جدية هذا الامر في تاريخ دولة إسرائيل”

ولم تحل جهود فينكلشتاين دون إحالة موردخاي الى المحاكمة امام محكمة عسكرية ميدانية بتهمتي القتل المتعمد، ولكن عمل فينكلشتاين القانوني المحترف كان فعالاً وبعد جلسة وحيدة للمحكمة ومراجعة للأدلة، برأت المحكمة موردخاي وبدا الامر وكأن قضية حافلة عسقلان (أو قضية الباص 300) قد انتهت ولو ان سمعة رجل بريء قد مُرّغت بالوحل بالرغم من تبرئته في النهاية، ولم تفضح اسرار “الشين بيت” كما لم تُلقِ مسؤولية الجرائم التي ارتكبها الجهاز على احد.

يضيف بيرغمان أنه كان يمكن للقضية ان تُنسى بالكامل لو لم نشهد صحوة ضمير من ثلاثة من كبار مسؤولي “الشين بيت”. كان أحد هؤلاء يدعى روفين هازاك نائب مدير الجهاز الذي كان وفق التراتبية مرشحاً لخلافة إبراهام شالوم. يقول بيرغمان: في البداية حاول الرجال الثلاثة اقناع شالوم بالتوقف عن الكذب وقال أحدهم (بيليغ راداي) لشالوم “لقد سقط (الرئيس الأمريكي ريتشارد) نيكسون (بفضيحة وترغيت) ليس بسبب اقتحام المبنى بل بسبب محاولته التغطية على ذلك”. لم يرد شالوم عليه، مع العلم ان هازاك كان أحد الأشخاص الذين شاركوا في حياكة مؤامرة شالوم (ضد موردخاي) غير انه في النهاية إستنتج ان ما حصل يجب ان يفضي إلى استقالة كل المتآمرين فرفض شالوم ذلك وقال “نقطة عالسطر”.

في 29 أكتوبر/تشرين الأول عام 1985، تمكن هازاك من لقاء رئيس الحكومة شيمون بيريز الذي خلف إسحاق شامير قبل ذلك بعام وفق اتفاقية تداول للسلطة بينهما. اصغى بيريز باهتمام بالغ لهازاك الذي كان يحمل ورقة كتب عليها ملاحظاته لم توفر أي تفصيل صغير في وصف عملية القتل والتغطية عليها، وقال لبيريز “ان المنظومة الأخلاقية التي استند اليها الشين بيت في القيام بمهامه انهارت بالكامل”. فكان رد بيريز عليه “في العادة انا افكر قبل اتخاذ أي قرار”. فغادر هازاك الاجتماع مرتاحا لشعوره ان اتهاماته ستؤخذ على محمل الجد وان ردا مناسبا عليها سيأتي قريبا” ولكنه كان مخطئاً، فقد كان شالوم رجلاً تكتيكياً محترفاً وكان قد سبق هازاك في لقاء بيريز وقدم له سيناريو مختلفاً تماماً بالقول له “هناك محاولة تمرد في الجهاز من قبل ثلاثة مسؤولين بهدف الإطاحة بي والحلول مكاني”. فنال شالوم دعم بيريز وتم طرد المتمردين الثلاثة من الجهاز بصورة غير مشرفة بعد ان كانوا افنوا عمرهم فيه وابتعد عنهم رفاقهم بعدما اعتبروهم “خونة”.

لكن المسؤولين الثلاثة قرروا المواجهة، وهكذا في منتصف ليل التاسع من مارس/آذار 1986 أتوا الى مكاتب وزارة العدل شبه الخالية في القدس الشرقية ودخلوا الى مكتب المدعي العام إسحاق زامير وإجتمعوا به لمدة ثلاث ساعات ونصف الساعة حيث قدموا له روايتهم الكاملة ليس فقط لمقتل أبناء العم أبو جمعة ومحاولة الباس الامر للعميد موردخاي بل أيضا لعمليات تعذيب واعدام اخرى تتجاوز القانون وشهادات الزور التي كان يفبركها جهاز “الشين بيت” على مدى عقود.

وجد نائب المدعي العام دوريت بينيش انه من الصعب التصديق ان رئيس الحكومة شيمون بيريز قد سمع كل هذه الأمور ولم يحرك ساكناً، فسأل هازاك “خلال اجتماعك برئيس الحكومة هل اخبرته عن عملية التغطية على هذه الأفعال”، فاجابه “لقد اخبرته كل شيء”. هنا ينقل بيرغمان عن النائب الثاني للمدعي العام يهوديت كارب قوله “لقد شعرت وكأن السماء سقطت على الأرض، اذ لا يمكن ان يكون هناك مبالغة في وصف ما جرى، انه استخفاف شامل بسلطة القانون وقواعده وفساد في كامل النظام، لا اذكر انه مرّ امامي حادث بمثل جدية هذا الامر في تاريخ دولة إسرائيل”.

وهكذا فقد شكلت لجنتا تحقيق، الأولى تديرها الشرطة للتحقق مما حصل في عملية حافلة عسقلان، والثانية برئاسة كارب في وزارة العدل ونطاقها أوسع ووظيفتها التحقيق في ممارسات “الشين بيت”. يقول بيرغمان إن هذا الامر كان بمثابة الكارثة لشالوم؛ فقد سبق له ان نجا من لجنتي تحقيق عبر شهادات الزور والكذب والافتراء وكان قد تمكن من الإطاحة بالثلاثة الذين حاولوا فضح مؤامراته وسلوكه، ولكن شبح أبناء العم أبو جمعة ما انفك يظهر له، والآن بعد إعادة فتح القضية سيكون من الصعب جداً عليه ان يقنع المحققين بسيناريو ملفق آخر. ومع ذلك، لم يتراجع هو وشركاءه بل على العكس ـ يضيف بيرغمان ـ أن كارب قال له ان شالوم وزمرته “اطلقوا حملة واسعة من النميمة والاكاذيب وتمريغ سمعة المسؤولين الثلاثة في الوحل اكثر واكثر وضد وزارة العدل نفسها”. لذلك، تم وضع بعض مسؤولي وزارة العدل تحت المراقبة كما تم وضع هواتفهم تحت المراقبة وذلك في محاولة لجمع المعلومات عن اي محاولة ابتزاز قد يتعرضوا لها وقد تم رصد تهديدات لمسؤولين بينهم في عتمة الليل وتم وضع زامير نفسه تحت الحراسة المشددة على مدار الساعة، ففي احدى المرات تم ارسال سيارة اسعاف الى منزله برغم انه كان بصحة جيدة جداً كما تم ارسال اكليل من الورد اليه (كالذي يوضع على الاضرحة) وقامت مصادر في “الشين بيت” بتسريب خبر ملفق يفيد ان بينيش كان على علاقة رومانسية مع احد المتمردين الثلاثة.

في هذه اللائحة كان الديبلوماسيون الإيرانيون الأربعة الذين سمح الموساد بتعذيبهم واعدامهم في بيروت على يد جزار حزب الكتائب اللبنانية روبير حاتم الملقب بـ”كوبرا”، وكانت هناك أهداف أطاحت بها الوحدة 504 في جهاز “امان” والذين “ماتوا بصورة طبيعية بعد ان ابتلعوا الوسادة” وتم دفنهم ووجوههم الى الأسفل

وينقل بيرغمان عن بينيش قوله “ان الامر المدهش الذي توصلنا اليه هو ان قوة جهاز الشين بيت كانت غير مقيدة ابداً وفقط عندما بدأنا التعامل معها تمكنا من الاستنتاج ان هذه القوة يمكن ان تستخدم في استهداف أي انسان وحتى ضد النظام القضائي وعند الضرورة ضد “كعب اخيل” (هو مصطلح يشير إلى نقطة ضعف مميتة على الرغم من كل القوة التي يمتلكها الشخص والتي ان أصيبت تؤدي إلى سقوطه بالكامل) السياسي في البلاد ووجدنا انفسنا مهددين وسمعتنا ملطخة”.

إقرأ على موقع 180  صناعة الحرب في إسرائيل.. تجارة مربحة!

برغم ذلك، لم يتراجع بينيش ومحققو الشرطة وتواصل عمل لجنتي التحقيق في شهري ابريل/نيسان ومايو/أيار عام 1986 فلم يكن امام شالوم الا مواصلة الكذب حتى تحت القسم، وعند التحقيق معه امام الشرطة قال انه تلقى أوامر من وزير الدفاع موشيه أرينز بقتل خاطفي حافلة عسقلان وعند مواجهته بأرينز في 16 ابريل/نيسان عام 1986 ونفى الأخير إعطاء هكذا امر، اعتذر شالوم وقال “لقد تولد عندي انطباع بانك أعطيت هكذا امر والآن وانا اتحدث اليك أرى أنني كنت مخطئاً في انطباعي”. وانتقل بعدها شالوم الى اتهام اسحق شامير الذي كان رئيسا للحكومة عند وقوع العملية، وقال ان شامير اعطى الامر بان يضرب الاسرى الفلسطينيين حتى الموت او على الأقل وافق على الرواية التي استخدمت لتغطية عملية القتل، وعند مواجهته مع شامير، زعم ان الأخير اخبره في لقاء جمعهما في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1983 ان “الإرهابيين” الذين يقعون في أيدينا يجب قتلهم ولكن شامير نفى ذلك أيضاً، عندها انتقل شالوم الى الإصرار على حصوله على الغطاء من السلطات ليقرر ما يفعله بالإرهابيين حتى قبل الهجوم على الحافلة ولو انه لم يحصل على توجيهات مباشرة من رئيس الحكومة.

وفي مايو/أيار عام 1986 أصر المدعي العام اسحق زامير على محاكمة كل الذين تورطوا في القضية بتهمة القتل وتضليل العدالة وتزوير الحقائق وكل ما يمكن ان ينتج عن ذلك، وقد حشر ذلك شالوم في الزاوية ولم يبق لديه الا ورقة واحدة ليلعبها. فقد اجتمع في أواخر مايو/أيار مع يوسي جينوسار ومستشارهم القانوني في غرفة جينوسار في فندق “جراند بيتش” في تل ابيب وبداوا معا اعداد لائحة بالقتلى مستعينين بما يملكون من ملفات وسجلوا على الورقة الأسماء والأماكن والتواريخ للأشخاص الذين قتلوا على ايدي “الموساد” و”امان” و”الشين بيت” قبل عملية عسقلان. وينقل بيرغمان عن جينوسار قوله “لقد جلسنا هناك لوقت طويل وتفحصنا كل ما نملك من وثائق”.

يضيف بيرغمان: في هذه اللائحة كان الديبلوماسيون الإيرانيون الأربعة الذين سمح الموساد بتعذيبهم واعدامهم في بيروت على يد جزار حزب الكتائب اللبنانية روبير حاتم الملقب بـ”كوبرا”، وكانت هناك أهداف أطاحت بها الوحدة 504 في جهاز “امان” والذين “ماتوا بصورة طبيعية بعد ان ابتلعوا الوسادة” وتم دفنهم ووجوههم الى الأسفل، وكان هناك أيضا عملية لـ”الشين بيت” في يونيو/حزيران عام 1984 في قرية البياضة في جنوب لبنان حيث وصل حوالي 15 عميلاً بثلاث سيارات مرسيدس فاخرة الى مرآب يملكه ضابط شيعي يدعى مرشد نحاس وقد سحب الى داخل احدى السيارات وقيل له بحسب شهود عيان “بإمكانك ان تختار كيف تريد ان تموت” وقد وجدت جثته منخورة بالرصاص عند اطراف البلدة، كما تم تسجيل أسماء كل الناس الذين اختفوا في المناطق المحتلة (الضفة الغربية وغزة وجنوب لبنان) على الورق كما تم تسجيل لائحة (3 صفحات فولسكاب) تضمنت أسماء كل الذين قتلوا منهم وفق برنامج “الاثقال” (هو برنامج قتل بلا محاكمة للأسرى)، وقد تضمنت أسماء أولئك الذين قتلوا في لبنان والضفة الغربية وقطاع غزة، ولكنها كانت لائحة مخيفة. وقد أطلق عليها جينوسار اسم “ملف الجماجم” وكان الهدف من هذه الوثيقة هو القول ان ما فعله شالوم بابناء العم أبو جمعة في حافلة عسقلان كان امرا روتينيا ومقبولا ويشكل جزءا من برنامج عقاب يتضمن القتل خلافا للقانون. وفي الحقيقة كانت هذه الوثيقة عبارة عن عملية ابتزاز واضحة تشير الى ان تعرض شالوم ورفاقه للادانة سيجر معه كثر من ضمنهم رؤساء حكومات. وينقل بيرغمان عن احد أعضاء الحكومة المصغرة قوله عند عرض “ملف الجماجم” امامه “لقد كان واضحا اننا يجب ان نوقف حالة الهستيريا العامة وان نكون متأكدين ان عناصر الشين بيت المتورطين في كل هذه الاعمال يجب الا يصلوا الى المحكمة”.

وقام بعدها شالوم بمناورة صادمة، ولكنها كانت فعالة فقد ذهب الى اسحق شامير (وكان وقتها وزيرا للخارجية ممثلا عن حزب الليكود اليميني) وعرض عليه الاستقالة من منصبه في “الشين بيت” فاجابه “لا تجرؤ على فعل ذلك”. حسب شالوم، كان شامير يخاف “إن استقلت ان عليه الاستقالة هو أيضا فتوجه الى رئيس الحكومة شيمون بيريز والرئيس السابق اسحق رابين (كلاهما من حزب العمل اليساري) الذي كان حينها وزيرا للدفاع وقال لهما انتما أيضا اعطيتما الأوامر والموافقات فان تخليتما عني وعن الليكود فاننا سنجركم معنا”. وهكذا فقد تم التوصل الى اتفاق تقدم به المدعي العام الذي كان يقدم الاستشارة القانونية لرئيس الوزراء وقادة “الشين بيت” ويتضمن الاتفاق ان يصدر الرئيس الإسرائيلي حاييم هيرتزوغ عفوا شاملا عن كل الممارسات التي ارتكبها عناصر “الشين بيت” ومسؤوليه قبل وصولهم الى المحاكمة وان لا ترمى اللائمة على احد في عملية قتل ابناء العم ابو جمعة في ملف حافلة عسقلان او أي عملية غيرها مقابل تحقيق امر واحد هو استقالة شالوم من “الشين بيت”.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الإنتفاضة الثانية.. شارون يُشعل شرارتها (96)