قامَ الرئيس قيس سعيّد بتعيين السيدة نجلاء بودن رمضان (1958) رئيسة للحكومة (الوزراء) في تونس ما بعد تجميد البرلمان والانقلاب عليه. وسواءً كان الموعد الذي ضربهُ سعيّد مع القدر السياسي التونسي صائباً لناحية تخليص التونسيين من برلمان انتخبوه أم لا، يثبت العقاب الذي مُني به حزب العدالة والتنمية المغربي في الانتخابات التشريعيّة الأخيرة تفويت سعيّد فرصةً تاريخيّة لكل المعارضين للإسلام السياسي الحركي للقضاء على إخوان تونس ديموقراطياً بواسطة الانتخابات في ظل المزاج العام بدلاً من تحويلهم إلى ضحايا انقلاب جهير على الدستور، لا سيما أن تراث الإخوان المسلمين منذ اغتيال حسن البنا إلى اليوم قائمٌ بالأساس على المظلوميّة.
لكن سعيّد على ما يبدو يحملُ جرحاً سياسياً غائراً، زادت في مكابدته تذكير نقادهِ ومناوئيه لهُ بمجيئهِ من اللامكان السياسي. أيّ أنّ هذا الرجل النظيف الذمّة، جاء انتخابه محكوماً بطوقين مغلقين؛ واحدٌ منها يعود إلى طُهرهِ المالي والوظيفي وسلامهِ السيري من الشبهات، والثاني: اتّخاذهِ كرتاً أحمر طردَ به ناخبوه الأوجه القديمة من قمرة الملعب السياسي.
بدا أن قيس سعيّد يريد أن يخرج من هذين الطوقين، ويؤدّي العمل السياسي دون الحاجة إلى استخلاص الخبرة من التسلسل داخل الهرم الإداري، وإنّما على غرار العِبرة بما سوف يأتي عن بصيرة نافذة وليس بما أتى عن فجاجةٍ نافدة.
لقد جاء تعيين السيدة نجلاء بودن مشابهاً لصفاته التي جاء بها عند ترشحه، فهي من خارج العمل السياسي، بالكاد تعرّف عليها مستشارو الرئاسة أنفسهم. والدها السيد محمد بودن مدير أحد المعاهد التونسيّة يفوقها شهرةً وصيتاً. كانت أستاذةً للتعليم العالي في المدرسة العليا للمهندسين. التماس الوحيد مع السياسة كان خفيفاً للغاية في منصبها في وزارة التعليم العالي (مكلّفة بتنفيذ برامج البنك الدولي في الوزارة)، وهو منصب يبدو غريباً قياساً بالخبرة في التعليم ونوع التكليف في وزارة تعليم عالي تهتّم بالبحث العلمي!
هل اختار سعيّد تعيين امرأة في أعلى منصبٍ في البلاد لذرّ الرماد في العيون من أجل تمرير رسالة ورديّة إلى الغرب؟ أم أنّ جغرافيا المُعيّنة قد يستأثر بروح النقاش الوطني ويلقي بقنبلة دخانية في البرلمان المعطّل ويُذيب الشمع على الفصل الثمانين فيما يُحيل الشاهد على الفصل السابع والثمانين؟
السيدة بودن هي أول امرأة تشغل هذا المنصب الكبير في تونس والوطن العربي. وهي أوّل رئيس حكومة من خارج الساحل والعاصمة منذ الفترة ما بين (1815-1822)، حين كان يشغل محمد العربي زروق خزندار (1822-1760) منصب الوزارة الكبرى أيام حكم محمود باي (1824-1814) إبّان سيطرة الدولة العثمانيّة (1881-1574).
وبالتالي يبدو قيس سعيّد مُفاجئاً حتى للمقرّبين إليه، وتاريخياً للمُبعدين عنه، ممتعضاً من جهويّة قديمة مقيتة، زادَ من تأثيرها الرئيس لحبيب بورقيبة بقوّة حين كان يصف (البعض الكثير) من الداخل التونسي من غير العاصمة والساحل بــ”السخط”. وأصّل في أدبيّاته الخطابيّة لجدل “النخلة والدخلة”، رغم أنّ هذه المظاهر شائعة ورائجة في بلدان العالم (حين احتلّ بوش الابن العراق، ذكّره صحافي مناهض بقدومه من نيوهيفن وجهله بطريقة تفكير نيويورك وواشنطن).
لكن رغم ما في قرار تعيين امرأة على رأس الحكومة في بلدٍ عربي من حسنة اجتماعيّة كبرى، لا يبدو ذلك غريباً على تونس التي قطعت أشواطاً كبيرة في تحقيق المساواة الجندريّة. فالبلد منتعش ثقافياً بفضل سياسات بورقيبة الاجتماعيّة. ولقد بقيت تلك السياسات عبارة عن مكتسبات موروثة حتى عند الإسلاميين (هنالك نساء سافرات مرشحات في حزب النهضة الإسلامي! يذكر ذلك بوجود مرشحات محجبات في الحزب الشيوعي (العمّال) التونسي!).
والحال أنّ الامتناع عن نقد الخيار السياسي الذي اتّخذهُ قيس سعيّد باختيار السيدة المحترمة نجلاء بودن لمجرد أنّها امرأة، أو اتهام النقد الموجّه لمسألة الاستعانة بغير الخبرة في تسيير مركزٍ يعتمد على الخبرة السياسيّة بالكامل بحجّة جنس المُعيّنة، هو الذكوريّة بعينها، لأنّ في ذلك اعتبارٌ خطير أخلاقياً وانسانياً بضعفِ النساء “العاطفي” وافتقادهم إلى المؤهل الاجتماعي الذي يؤهلهم لتلقي النقد واقتصاره على الذكور حصراً بحساب الكفاءة والصرامة!
ثمة فقر ثقافي في بلادنا، سببهُ النسويّة العربيّة التي جعلت معركتها مع الرجل العربي وليس مع الذكر. لذلك بدت الكتابات التي تناولت هذا الحقل سليلةً للنسويّة الفرنسيّة، أيّ نسويّة الصالونات، فيما النسويّة التي أرى بأنّها أجدى بفهمٍ أعمق للعناوين الكبرى للعلاقة بين نسقين متمايزين هي النسويّة الهنديّة المكتوبة باللغة الإنجليزيّة.
فهل اختار قيس سعيّد تعيين امرأة (لم يختبرها التونسيون بعد) في أعلى منصبٍ في البلاد لذرّ الرماد في العيون من أجل تمرير رسالة ورديّة إلى الغرب؟ أم أنّ جغرافيا المُعيّنة قد يستأثر بروح النقاش الوطني ويلقي بقنبلة دخانية في البرلمان المعطّل ويُذيب الشمع على الفصل الثمانين فيما يُحيل الشاهد على الفصل السابع والثمانين؟
كلّ هذا قد يتجلّى في الأيام القادمة، فقد بدأ يشعر أنصار قيس سعيّد بأنّ ثمة نية ما، قد تكون ضامرة للغاية، في أنّ شهوة الاستحواذ على صلاحيات البرلمان وأعمال الحكومة، قد بدأت شآبيبها في الظهور علناً، وربما ومع نزيف الوقت الذي يحدثُ، قد يتحوّل قيس سعيّد من لاعبٍ لـ”الدّاما” مع رئيس البرلمان راشد الغنوشي إلى لاعب شطرنج مع الشعب التونسي في حدّ ذاته!