وما أدراك.. ما نوى؟

توغّلت القوّات الإسرائيليّة في بلدة نوى في حوران بسفح جبل الشيخ، واشتبك الأهالي معها بالسلاح ودافعوا عن بلدتهم وكرامتها وكرامة أهلها والسوريين. واستُشهد تسعة منهم. هذا في بلدٍ تمّ حلّ جيشه وتقوم إسرائيل يوميّاً بقصف وتدمير منشآته وتُهدّد بأنّها ستضع عاصمته دمشق تحت هيمنتها وصولاً إلى الفرات.

السوريّون وغيرهم لا يعرفون ما هي نوى؟ وأين هي؟ بلدةٌ تبعد 73 كلم عن مركز العاصمة دمشق. نوى معروفة منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد حيث كان يسكنها الأموريّون، أجداد العرب. وذكرتها التوراة أنّها أرض باشان التي كان يسكنها الكنعانيون والآراميون. كانت دوماً ضمن دولة-مدينة دمشق، التي تنافست مع القبائل اليهوديّة حسب التوراة، وتعود شهرتها كأرض النبيّ شام بن نوح أبو العرب وأرض النبي أيّوب، ذي الصبر الطويل.

في القرن الثامن قبل الميلاد، هيمن الآشوريّون على المنطقة، ثمّ البابليّون وبعدهم الإمبراطوريّة الفارسيّة. وهذه الأخيرة سمحت لليهود بالعودة إلى فلسطين بعد “السبي البابلي”، حيث سكن بعضهم في المنطقة.

ثمّ جاء غزو الاسكندر الأكبر لسوريا عام 332 قبل الميلاد وأصبحت المنطقة مجالاً للصراع بين ورثته؛ السلوقيون على سوريا وتركيا وإيران من ناحية، والبطالمة على مصر من ناحية أخرى. صراعٌ لم يتوّقف إلاّ حين تزوّجت كليوباترا الأولى، ابنة الامبراطور السلوقي، والتي دُعيَت بالسوريّة، من فرعون مصر البطلميّ.. في رفح. حيث حكمت كفرعونة أنثى مصر بعد وفاة زوجها. حينها عمّت الثقافة اليونانيّة وامتزجت بالثقافات المحليّة.

وفي القرن الأوّل قبل الميلاد جاء الرومان وتعاملوا مع الممالك المحليّة، وبينها مملكة العرب اليطوريين (أو مملكة خالقيس) التي اتخذت من عنجر، في البقاع اللبناني، عاصمتها وكذلك مملكة الأنباط التي امتدّت حتّى الحجاز (ومنها آثار البتراء والعُلا). ونهضت حوران لتصبح “إهراءات روما”، بفضل إدارة الريّ مصدر الحياة والقمح. كما اشتهرت بنبيذها Auranitis وبخرافها ذات الطعم المميّز. هكذا كي يُصبِح فيليب العربي إمبراطوراً على روما في القرن الثالث الميلادي (بعيد فترة إمبراطوريّة السيفيروس وجوليا دومنا وأسرتهم الحمصيّة). ولد فيليب العربي قرب مدينة بصرى الشام، في مدينة شهبا التي حوّلها إلى “مدينة إمبراطوريّة” سمّيت باسمه Philippopolis. لقد عبّد الطرق حولها بما فيه الطرق الكبرى حتّى العقبة، وطوّر مدن حوران. وضمّ كبير آلهة العرب في المنطقة، ذو الشرى (سيّد الجبال Dusares)، إلى قائمة الآلهة الرسميّة الرومانيّة. وما زالت نقوش هذا الإله حاضرة إلى اليوم في آثار حوران والبتراء ومدائن صالح. هذا في حين أوقف فيليب العربي اضطهاد معتنقي الديانة المسيحيّة الناشئة.

في القرن الرابع الميلادي، أضحت حوران مجالاً لمملكة المناذرة اللخميين الذين اعتنقوا المسيحيّة السريانيّة. تبعهم بنو سُلَيح المتحمّسون للمذهب البيزنطي، كي يحلّ مكانهم الغساسنة أو الجفنيين في القرن الخامس، معتنقي مذهب “الطبيعة الواحدة” ليسوع المسيح، والذين فرضوا أسس لـ”حجٍّ” لمرقد يوحنّا المعمدان في الرمثانية في الجولان. وامتدح الشعراء ملوكهم وعاصمتهم “جاببة الملوك”، وبينهم حسّان بن ثابت الذي شهد الدعوة الإسلاميّة، وأصبح شاعر الرسول الكريم.

في بداية دعوة الرسول، كسر الفرس الساسانيّون بيزنطة وغزوا دمشق والقدس (613-617 م) حتّى مصر. لتعود بيزنطة وتطرد الفرس بعد أقلّ من عشر سنوات، ليأتي الفتح الإسلامي وينتصر على البيزنطيين في معركة اليرموك وليقضي على الإمبراطورية الساسانية بعد معركة القادسية (وكلا المعركتين عام 636 م). في ظلّ رفض الغساسنة لاضطهاد بيزنطة لهم في عقيدتهم ورفض المناذرة لاضطهادٍ مماثل من الساسانيين. فالإسلام كان قد أسّس حينها التسامح المذهبي.

ترمز نوى إلى هذا الإرث. إذ يحيط بالبلدة الحالية تلّان: تل الجموع، الذي يُعزى أنّه المكان الذي حشد فيه خالد بن الوليد الجيوش العربية الإسلاميّة قبيل معركة اليرموك، وتلّ الجابية، المكان المفترض لعاصمة الغساسنة، “جابية الملوك”، ومنها تسمية “باب الجابية” في دمشق الذي يفتتِح “الطريق المستقيم” في البلدة القديمة.

لا تذكر كتب السيرة والتاريخ عمّا إذا كان الرسول محمد قد زار الجابية، ولكنّها تشير إلى أنّ الخليفة عمر بن الخطاب جعلها مركزاً له بعد معركة اليرموك وأقام خطبةً بالجيوش. ثمّ استقبل وفداً من مدينة القدس مع أبي عبيدة بن الجراح، أدّى إلى زيارته لها ومنحها الأمان بـ”العُهدة العمريّة” الشهيرة. ليمحي اضطهاد الفرس لمسيحييها. حينها بنى الخليفة عمر أوّل مسجدٍ في القدس فوق صخرة الإسراء والمعراج.

وعندما قدم معاوية بن أبي سفيان ليتولّى بلاد الشام اختار الجابية مركزاً له، وذلك قبل أن ينتقل إلى دمشق-الشام بعد أربع سنوات كي يؤسّس الخلافة الأمويّة. ولكنّ دور الجابية عاد ليبرُز بعد تخلّي معاوية الثاني حفيده عن الخلافة، وانقسام القبائل والأمصار على مبايعة خليفة جديد لامبراطوريّة عربيّة إسلاميّة في عزّ امتدادها. هكذا تمّ خلال أربعين يوماً عقد مؤتمرٍ في الجابية لتحكيم الصراع حول الخلافة بين الأمويين لصالح مروان بن الحكم، مؤسّس الأسرة المروانية، وكذلك مع عبد الله بن الزبير الذي عاذ (لجأ) إلى مّكة المكرّمة.

لماذا جرى التحكيم في الجابية، عاصمة الغساسنة، وليس في دمشق-الشام، عاصمة الأمويين؟ ولماذا اختفت أخبار الجابية في التاريخ الإسلامي بعد ثورة أبو مسلم الخراساني وأبي العبّاس “السفّاح” على الأمويين وإبادة سلالتهم وإقامة الخلافة العباسيّة؟

إقرأ على موقع 180  تركيا – اميركا: هل من مخرج لأزمة "أس-400"؟

لقد بقيت حوران وعشائرها دوماً عصيّة على الدولة العباسيّة، وعلى من خلفها.. ولم يدخُل معظم أهلها الدين الإسلامي إلاّ في العصر المملوكي مع بروز مفكّرها الإسلامي الشهير يحيى بن شرف النووي (1233-1277م). والذي كتب عنه أبو فحص الورديّ:

لقيتِ خيراً يا نوى/ وحُرِستِ من ألم النوى

فلقد نشا بك زاهدٌ/ في العلم أخلصَ ما نوى

وعلى عداه فضله/ فضل الحبوب على النوى

لجأ الدروز إلى جبل حوران بعد معركة عين دارة في جبال لبنان بين القيسيّة واليمنيّة، ليكنّى الجبل بهم قبل أن يسمّى في الدولة السورية الناشئة “جبل العرب”. وأضحوا جزءاً من نسيج مجتمع المنطقة.

لقد قاتل أبناء سهول حوران والجولان ووادي التيم وجبالهم، على اختلاف مذاهبهم، جميع الغزاة. عربٌ أقحاح منذ القدم وذوي تاريخٍ يعتزّون به.. وسيقاتلون كلّ الغزاة الجدد.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "حزمة الإتفاق".. والحوار المطلوب لبنانياً