“الكاظمية” وظيفة.. هل تصبح حاجة عراقية!

منذ الإحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وإنبثاق سلطة عراقية جديدة تحكم بلاد ما بين النهرين بأمرة "الأنكل سام"، صار العراق ساحة صراع دولي ـ إقليمي وتنازع طائفي وقومي. كل محاولات تحييد العراق باءت بالفشل، فهل ما يقوم به رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي سيصطدم بالعقبات إياها التي أدت إلى إخفاق من سبقوه؟

حتى تاريخه، نجح مصطفى الكاظمي في جمع إيران والسعودية ألد الأعداء في الإقليم على أرض بغداد. آخر لقاء عقد في مطار بغداد الشهر الماضي، وثمة “أجندات” تم الإتفاق عليها وينبغي ترجمتها وربما تكون البداية من اليمن. كانت وجهة نظر الكاظمي أنه لا مناص من إنعكاس صراع هذين البلدين على أرض بلاد الرافدين طالما يستمر العداء قائماً بينهما، فلماذا لا تجري محاولة للتقريب بين دولتين تتقاسمان الجزء الأكبر من الحدود مع العراق؟

لا يمكن أن تجري محاولة الكاظمي بمعزل عن المناخ الإقليمي والدولي وبالتالي بمعول عن التوازنات العراقية. يستفيد الرجل من الظروف الخارجية، مثلما يستفيد من خبرته وعلاقاته التي نسجها مذ كان مديراً لجهاز المخابرات الوطني العراقي، حيث عمل آنذاك على تطوير شبكة واسعة من العلاقات مع القادة وكبار المسؤولين في الشرق الأوسط، وحقق نجاحاً كبيراً في أداء دور الوسيط ومُيسِّر الحوار، ولا سيما بين إيران وخصومها الإقليميين.. والأهم إعتماد مقاربة “صفر أعداء” في إدارته لعلاقات جهازه على الصعيد الإقليمي.

ولا شك أن الدبلوماسية التي ينتهجها الكاظمي، اليوم، مخالفة بطبيعة الحال لما كان ينتهجه النظام البعثي السابق بالعراق، فالأخير كان يعتمد على القوة والحروب العبثية التي زج الشعب العراقي في أتونها، ودفع ثمنها باهظاً من شبابه واقتصاده وموارده وإمكاناته، وأبقى العراق في حالة صراع مع محيطه، سواء العربي أو الإيراني. خاض حربين على التوالي (الحرب مع إيران 1980- 1988، ثم غزو الكويت 1990) ولم يجن العراقيون منهما إلا الموت والدمار. كانت وظيفة أجهزة مخابراته قمع الداخل وتأجيج صراعات الجوار، ولا زال اللبنانيون يتذكرون بعض فصول حروبهم الأهلية ومنها ما كان مدموغاً بختم النظام العراقي، سواء نكاية بنظيره نظام البعث في سوريا أو لإعتبارات إقليمية، وبالتالي، ونتيجة كل ما تقدم، أضاع العراق البوصلة، وحُرم العرب من ثاني جيوشهم قوة وعديداً بعد الجيش المصري.. قبل أن تنهار البوابة الشرقية ويصبح العالم العربي مشرعاً أمام مشاريع التفتيت.

أدرك الكاظمي مذ كان ممسكاً بتلابيب الأمن العراقي، بأنه لا يمكن لأي مشروع سياسي أن ينجح في العراق من دون رضى أميركا وإيران في آن. بل أكثر من ذلك، لا يمكن لأيٍ كان أن يعتلي سدة رئاسة الوزراء إذا لم ينل رضى الدولتين المذكورتين

رُبّ قائل أن الكاظمي لا يتميز عن أقرانه من رؤساء حكومات ما بعد الغزو الأميركي. لطالما كان النقاش هل يكون رئيس الحكومة سعودياً أم إيرانيا أم أميركياً؟ ما يحاول الكاظمي تكريسه، حسب المقربين منه، “أن يكون رئيس الحكومة عراقياً. يعود معه العراق للعب دوره العربي الجامع. أن يكون مساحة تلاقٍ لا تفرقة. البعض من العراقيين رمى بنفسه في أحضان إيران، وبعضهم الآخر عقد لواءه على قوى الاحتلال، والبعض الثالث حاول التوازن بينهما وأخفق. لم يدرك هؤلاء الدور الذي على العراق أن يلعبه، خصوصاً أنه على موعد مع انسحاب قوات الاحتلال منه نهاية العام الحالي وعلينا كعراقيين أن نكون جاهزين لمواجهة هذا التحدي وأن نثبت قدرتنا على حماية بلدنا”.

ليس المطلوب من العراق إستعادة دور سالف، “فعجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء، لكن يمكن لقيادة هذا البلد ـ المرتكز أن تحاكي تطلعات الشعب العراقي وطموحاته، بعد عقود من خضوع هذا الشعب لأسوأ صنوف الاستبداد والحصار والاحتلال والفساد”، يقول المقربون من الكاظمي.

أدرك الكاظمي مذ كان ممسكاً بتلابيب الأمن العراقي، بأنه لا يمكن لأي مشروع سياسي أن ينجح في العراق من دون رضى أميركا وإيران في آن. بل أكثر من ذلك، لا يمكن لأيٍ كان أن يعتلي سدة رئاسة الوزراء إذا لم ينل رضى الدولتين المذكورتين. لذلك، وجد نفسه أمام مهمة صعبة جداً تتمثل “في نسج علاقات متوازنة مع معظم الدول المؤثرة في المشهد العراقي.. وصولاً إلى إعادة العراق نقطة جذب أو جسر تواصل بين دول المنطقة”.

وقد توّج الكاظمي جهوده الدبلوماسية على مدى سنة ونيف في قمة بغداد للتعاون والشراكة، في 28 آب/ أغسطس الماضي، والتي شاركت فيها 9 دول بمستويات تمثيل متباينة، فقد حضر القمة زعماء كل من قطر والأردن ومصر وفرنسا، فيما أوفدت الكويت رئيس مجلس الوزراء وكذلك فعلت الإمارات، أما الدول المحورية في الإقليم؛ السعودية وتركيا وإيران، فأوفدت وزراء خارجيتها. وكان لافتاً للإنتباه استبعاد سوريا ولبنان برغم ما تجسده علاقة العراق بكل من هذين البلدين.

ولعل مجرد التقاء ممثلي تلك الدول في بغداد تحت سقف واحد، هو انجاز يسجل للعراق، فلقاء الإماراتي مع القطري، والأخير مع المصري، فضلاً عن لقاء السعودي مع الإيراني الذي مُهد له بثلاثة لقاءات ثنائية في بغداد أيضاً في وقت سابق، بصرف النظر عن فحوى الحديث الذي دار وما تمخض عن القمة. فالعراق يثبت يوماً بعد يوم أنه يستحيل من ساحة للصراع إلى ساحة للتلاقي والحوار الإقليمي.

إقرأ على موقع 180  من أفغانستان إلى فيينا.. أي شرق أوسط ننتظر؟

ثمة تعريف تقليدي للدور الإقليمي هو سلوك معين لدولة ما تلعبه ضمن بيئتها الإقليمية، ويتحدد وفق مقومات داخلية وخارجية تمنح الدولة الفاعلية بين مجموعة الدول في بيئة إقليمية معينة، إذ نجد أن التركيز مُنصبٌ على المقومات الداخلية كما الخارجية، بحيث لا قوة لدولة خارج إقليمها إذا ما كان لتلك الدولة فائض من القوة والاقتصاد في الداخل.

في حالة العراق، يبدو الأمر مختلفاً، فهو يطمح لدور لا يحتاج إلى فائض قوة كونه ليس دوراً عدائياً، وليس طامعاً أو منافساً على نفوذ، على غرار ما كانت طموحات النظام العراقي السابق تؤرق حياة زعماء دول الخليج العربي. وبالتالي دبلوماسية الحوار والتلاقي لا تتطلب استخدام القوة، فمشروع العراق الجديد يتسم بالحياد الإيجابي، ومد قنوات التواصل مع المحيط بالتوازي مع حفظ أمن واستقرار العراق وإبداء الحرص الفعلي على إستقرار دول الجوار كلها.

ولا شك أن نجاح الكاظمي حتى الآن خارجياً ليس كافياً، فثمة أشياء كثيرة عليه القيام بها داخلياً في بلد ينخره الفساد من كل حدب وصوب، وتكرّست الطائفية السياسية في مختلف القطاعات المدنية والعسكرية، لدرجة أمست القوات المسلحة على نحو يتعذّر إصلاحه، لا سيما بعد نشوء قوات عسكرية شرعية رديفة (فصائل الحشد الشعبي)، ما زال يُنظر إليها كواحد من أذرع إيران الخارجية، برغم الفضل الكبير الذي يعود إليها في تحرير العراق من تنظيم “داعش” الإرهابي. كذلك أصبحت الهويّات العرقية والدينية فجأة هي حجر الزاوية في الحكومة العراقية بعد العام 2003، وبدأ انتخاب المسؤولين وتوظيف الموظفين العموميين على نحو طائفي على غرار الدولة اللبنانية المتأصلة في هذا المضمار.

وفي نهاية المطاف، يبقى على الكاظمي أن يعمل على إرساء ثقافة الحوار والتلاقي حتى تصبح ثقافة كل من يحكم العراق وحتى لا يكون ما نشهده اليوم مجرد موجة عابرة وظرفية، وحتى لا يبقى هذا التوجه مرتبطا بشخصية الحاكم. فالكاظمي لن يبقى في الحكم إلى أبد الآبدين، هذا إذا قُدر له النجاح بولاية ثانية في أعقاب الانتخابات العراقية المقررة في 10 تشرين أول/ أكتوبر القادم، ولعل مواقف المرجعية في النجف بتشجيع الحوار وإبعاد العراق عن شبح الصراعات والحروب وسلوك سياسة متصالحة مع دول الجوار، تصب في خانة تمكين “الكاظمية” من تشكيل الحكومة العراقية المرتقبة بعد الانتخابات.

Print Friendly, PDF & Email
مهدي عقيل

أستاذ جامعي، كاتب لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  للنائب أن يحاسب وزيراً أو مديراً عاماً لا أن يتحول مخبراً