قبل أسبوعين تقريبا، وقعت الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة اتفاقية أوكوس الأمنية لتزويد أستراليا بثماني غواصات على الأقل تعمل بالطاقة النووية، في خطوة تهدف إلى خلق توازن استراتيجي جديد في المحيط الهادئ مع قيام بريطانيا وأمريكا بنقل أكثر تقنياتهما حساسية لأستراليا إلى جانب التعاون في مجالات أخرى مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة. هذا نتج عنه غضب فرنسي، لأن الاتفاقية تمت في الظلام، وهو ما شكل خيانة للحلفاء المقربين للدول الثلاث، ولأنها أيضا ألغت عقد بيع غواصات فرنسية لأستراليا، خسرت فيه فرنسا أكثر من 60 مليار دولار إلى جانب خسائر في الوظائف والإيرادات.. هذه الصفقة تكشف تغييرات عميقة في السياق الاستراتيجي العالمي، وتوضح تغيرات، وربما تناقضات، في مواقف دول العالم الغربي.
***
رأى الكاتب جارفان والشي في مقاله المنشور في مجلة فورين بوليسي أن اتفاق أوكوس والغواصات أعطى فرنسا درسا جيوسياسيا قاسيا. ففرنسا التي لديها أكثر من 1.5 مواطن في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، خاصة في كاليدونيا الجديدة وريونيون، رغبت من خلال الاتفاقيات الأمنية مع أستراليا تأمين أراضيها في بيئة آسيوية تزداد عمليات عسكرتها. عقدت فرنسا صفقة الأسلحة مع أستراليا في وقت رئاسة فرانسوا هولاند عام 2016، آنذاك أرادت الدولتان زيادة انخراطهما مع بيكين للاستفادة من السوق الصينية. ولكن، موقف أستراليا من الصين تغير بشكل جذري بعد ذلك مع انتهاج الصين دبلوماسية عدائية تجاه أستراليا وفرض عقوبات عليها.
أوضح والشي أسباب أستراليا في توقيع اتفاقية أوكوس، فأستراليا رأت أن الولايات المتحدة شريك أمنى موثوق أكثر من فرنسا، وأستراليا لديها بالفعل علاقة وثيقة مع القوات الجوية الأمريكية والمخابرات الأمريكية من خلال اتفاق تبادل المعلومات والإشارات الاستخباراتية أو ما يعرف بتحالف “العيون الخمس” الاستخباراتي. كما أن الولايات المتحدة حازمة على مواجهة الصين التي ترى أنها تمثل تهديدا للنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وتهديدا لحلفاء الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهادئ والهندي. وبالتالي فإلغاء الصفقة مع فرنسا هو ثمن يُستحق دفعه مقابل تحقيق مصالح استراتيجية أوسع.
يرى والشي أن مشكلة فرنسا هي عدم إدراكها لموقعها كدولة متوسطة القوة في النظام العالمي، وبالتالي كان من الطبيعي أن تدفعها الولايات المتحدة، كقوة عظمى، بعيدا عن طريقها للحفاظ على مصالحها. ولكن هذا لا يعني أن ليس هناك فرص يمكن لفرنسا اغتنامها. حاولت فرنسا من قبل أن تصبح السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي امتدادا لسياستها، وعرقل ذلك بريطانيا وأمريكا. ولكن بعد الخروج البريطاني من الاتحاد والإدراك الأمريكي بأن وجود اتحاد أوروبي قوي ومستقل يخدم مصالحها أكثر، يمكن لفرنسا أن تستغل الفرصة في محاولة تحقيق استقلال الدفاع الأوروبي، أو الحكم الذاتي الاستراتيجي، التي طالما واجه انتقادات من دول أوروبا الشرقية التي ترى، مثل أستراليا، أن أمريكا شريك أمنى موثوق فيه أكثر. يمكن لفرنسا أن تركز أكثر على تحقيق استقلال الدفاع الأوروبي، وأن تصبح فرنسا هي الأساس لسياسة خارجية أمنية أوروبية مستقلة. والنتيجة النهائية ستكون زيادة النفوذ الفرنسي في المناطق التي تهم فرنسا، مثل أفريقيا وجنوب شرق آسيا، وهو ما يتطلب في الوقت نفسه المساهمة في المناطق التي لا تحظى باهتمام فرنسا وضمان تلبية احتياجاتها، مثل أوروبا الشرقية وروسيا، وهو ما سيعني إحداث تغييرات كبيرة في السياسة الخارجية الأوروبية.
***
أما بالنسبة لبريطانيا، فهي تعتبر أوكوس خطوة مهمة نحو تعميق علاقاتها مع دول المنطقة، مثل اليابان والهند وغيرهما، وتمهد الطريق للدخول في اتفاقية الشراكة التجارية العملاقة عبر المحيط الهادئ. وهنا يرى الكاتب توم ميكتاجو في مقاله في مجلة ذي أتلانتيك أن علينا التوقف للحظة؛ فمصالح فرنسا وبريطانيا ليست متعارضة، ففي حين تطمح فرنسا لزيادة قوتها على المسرح العالمي من خلال الاتحاد الأوروبي، تطمح بريطانيا للعب دور عالمي خارج الاتحاد الأوروبي.
ولكن يفرض تحالف الأوكوس العديد من التحديات أمام بريطانيا، ففي مقال للكاتب نيك ويتني على موقع المجلس الأوروبي للشئون الخارجية طرح نفس التساؤلات التي طرحتها رئيسة الوزراء السابقة، تيريزا ماي. تساءلا عن موقف بريطانيا إذا قررت الصين مهاجمة تايوان؟ فبريطانيا لم تعد تمتلك القوة البحرية التي لا مثيل لها مثلما كان الحال في القرن التاسع عشر، فهل سيكون من المنطقي أن تحاول بريطانيا كدولة متوسطة القوة ذات اقتصاد متعثر أن تتدخل في نزاعات على الجانب الآخر من الكرة الأرضية؟. يتساءل ويتني في مقاله عن قدرة بريطانيا تحمل رد فعل الصين على التدخل البريطاني في ساحتها الخلفية، وخاصة إذا نظرنا إلى قدرة الصين على قمع هونج كونج وفرضها للعقوبات على أستراليا. وهل يمكن أن تتوقع المملكة المتحدة أن تقوم فرنسا الغاضبة بمنع تدفقات الهجرة غير الشرعية إلى بريطانيا؟
ويثير أيضا ويتني التساؤل حول المنفعة الحقيقة لبريطانيا من الشراكة الجديدة. فمن الواضح أن بريطانيا لن تقوم ببناء الغواصات. وكان هناك إشارات لوجود تعاون في مجالات أوسع مثل الذكاء الاصطناعي، لكن البرامج الوحيدة المذكورة- مثل تلك الخاصة بتزويد الأستراليين بصواريخ توماهوك والصواريخ طويلة المدى المضادة للسفن- تتعلق بأنظمة الأسلحة الأمريكية. وهذا كله إلى جانب المشاكل الداخلية التي تواجهها الحكومة البريطانية من صعوبات؛ في الحفاظ على سلاسل التوريد، وأزمة ارتفاع تكلفة المعيشة مع ارتفاع أسعار الطاقة بشكل كبير وخاصة مع دخول فصل الشتاء، وارتفاع العبء الضريبي لأعلى مستوياته للحفاظ على الخدمات الصحية من الانهيار. وبالتالي، هل تعتبر المملكة المتحدة عجلة خامسة في العربة، وما هو حجم الكعكة التي ستسمح الولايات المتحدة لبريطانيا بأكلها؟
***
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فهذا التحالف سيحقق مصالحها في مواجهة الصين، وهو تحالف يأتي بعد عقد من خيبة الأمل الآسيوية في السياسة الأمريكية، وقيام الصين بفرض سيادتها على جزر وشعاب مرجانية في بحر الصين الجنوبي ودخولها في اشتباكات مع الهند على الحدود. ذكرت مجلة الإيكونومست (25 سبتمبر/أيلول 2021) بعدين إيجابيين يعودان على الولايات المتحدة من هذا التحالف؛ البعد الأول عسكري، ففي الوقت الذي تزداد فيه ممارسات الصين التي تراها أمريكا عدائية في بحر الصين الجنوبي، تعد الغواصات النووية أكفأ من الغواصات التي تعمل بالديزل لما لها من قدرة على جمع المعلومات الاستخباراتية ونشر القوات الخاصة والبقاء في المياه العميقة في المحيطين الهندي والهادئ لأشهر، وهو ما سيمثل تهديدا على الصين. البعد الثاني دبلوماسي، ففي ظل العقوبات التي تفرضها الصين على أستراليا بعدما دعت الأخيرة إلى إجراء تحقيق بشأن تسرب وباء كورونا من معامل الصين، تدخُل أمريكا في المنطقة يعطي إشارة أن أمريكا لن تتخلى عن دعم حلفائها الذين يقاومون التنمر الصيني. ولكن يظل التحدي أمام الولايات المتحدة هو كيف ستستمر في خطابها المنادي بالتعاون الاقتصادي مع الصين؟ إن جو بايدن في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أوضح أنه لا يريد حربا باردة مع الصين ودعا إلى الاعتماد على الدبلوماسية لحل مشاكل العالم.
تعلم الصين أن شبكة التحالفات العالمية الأمريكية هي غطاء للهيمنة، حتى مع الكلمات الدافئة والدفاع الأمريكي عن القيم العالمية. وناقش مقال آخر جاء في الإيكونومست (25 سبتمبر/أيلول 2021) أن الرد الصيني على التحالف الجديد كان حذرا، وتجنب التعبير الصريح عن التضامن مع فرنسا، فالصين عادة ما تمدح القادة الفرنسيين عندما يدعون أوروبا إلى السعي وراء “الاستقلال الاستراتيجي” في سياساتها الخارجية والأمنية. وبدلا من ذلك، شنت الصين هجوما ضيقا على أوكوس فيما يتعلق بالغواصات التي ستشتريها أستراليا من أمريكا، واتهم سفير الصين لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية أمريكا بتقويض أنشطة عدم انتشار الأسلحة النووية من خلال نقل المعرفة النووية واليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة النووية إلى أستراليا، قائلاً أن هذا سيجعل من الصعب منع إيران وكوريا الشمالية من السعي لامتلاك تقنيات مماثلة.
ويوضح مقال الإيكونومست أيضا كيف استغلت الصين الحادثة لإظهار تناقضات النظام العالمي. فأوضحت أن القوة هى المحرك الأساسي في الجغرافيا السياسية، حتى لو تحدثت الدول الصغرى عن إيمانها بالتعاون متعدد الأطراف والنظام القائم على القواعد وغيرهما من المصطلحات الجميلة. وأظهرت أن إقدام دولة صغيرة أو متوسطة القوة على تحدي الصين يكون ناتجا عن المحاولات الحمقاء لحكومات تلك الدول إرضاء أمريكا. ويوضح اتفاق أوكوس أيضا عدم وحدة الكتلة الغربية أمام الصين، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالحديث عن المبادئ أو سحق المعارضة في هونج كونج. والصين ترى فائدة في ترك العداء يتفشى بين القوى الغربية.
في منطقة جنوب شرق آسيا، كما ذكر مقال مجلة الإيكونومست، الصين هي الشريك التجاري الأكبر لمعظم دول المنطقة، والمنطقة تتطلع إلى الصين من أجل ازدهارها. لذا محاولات أمريكا موازنة قوة الصين في المنطقة تعتبر خيالية. واشنطن لا تبدو متحمسة للرجوع إلى الشراكة عبر المحيط الهادئ بعد انسحاب ترامب منها، على عكس الصين التي تنوي الانضمام إليها، وفي الوقت الذي قررت فيه أمريكا موازنة قوة الصين بقواها الخشنة، اتبع بايدن دبلوماسية غير كفؤة تجاه فرنسا وحلفائها الأوروبيين، كما كان الحال مع قرار انسحابه من أفغانستان.
(*) بالتزامن مع “الشروق“