السودان بعيد عن الأولويات الجيوستراتيجية لواشنطن

تمثل السودان منطقة رمادية فى تصنيف الدول طبقا لعلاقتها مع الولايات المتحدة، فلا هى دولة حليفة ذات أهمية استراتيجية كما الحال مع المملكة العربية السعودية أو مصر، ولا هى دولة يجمعها عداء مع واشنطن مثل سوريا أو إيران.
خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى أيلول/سبتمبر الماضى، قال الرئيس الأمريكى جو بايدن إن أمام العالم خيارين؛ إما التحلى بالقيم الديمقراطية التى يتبناها الغرب، أو تجاهلها لصالح الحكومات الاستبدادية، مؤكدا أن بلاده تتجه نحو حقبة جديدة من الدبلوماسية الدؤوبة لدعم قضايا الحريات وحقوق الإنسان حول العالم.
وقبل ذلك وخلافا لنهج سلفه دونالد ترامب، أكد بايدن ــ فى حملته الانتخابية وفى خطاب تنصيبه قبل 10 أشهر ــ أن ملفات حقوق الإنسان ودعم عملية الانتقال الديمقراطى حول العالم ستصبح محور السياسة الخارجية لإدارته.
وبعد تغيير الجيش السودانى لترتيبات العملية السياسية فى بلاده واعتقاله لقادة الحكومة المدنية الانتقالية، وبدء العمل بقانون الطوارئ، لم يتحدث الرئيس الأمريكى جو بايدن ولا وزير خارجيته تونى بلينكن ولا مستشاره للأمن القومى جيك سوليفان على الهواء حول ما حدث، ولم يوجه الرئيس حديثا للأمة الأمريكية أو للشعب السودانى.
واستغرق الأمر 5 أيام كاملة كى يخرج بيان رئاسى من البيت الأبيض يدعو فيه بايدن إلى إعادة الحكومة بقيادة المدنيين فى السودان. وقال بايدن فى بيانه: «يجب السماح للشعب السودانى بالاحتجاج السلمى وإعادة الحكومة الانتقالية بقيادة مدنية»، داعيا الجيش إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين وإعادة مؤسسات الحكومة الانتقالية السودانية. وأكد بايدن أن «أحداث الأيام الأخيرة هى نكسة خطيرة، لكن الولايات المتحدة ستواصل الوقوف إلى جانب شعب السودان ونضاله السلمى لدفع أهداف ثورة السودان».
السودان بعيد كل البعد عن الأولوية الجيوستراتيجية لواشنطن، ولا يعنى إخفاق عملية الانتقال الديمقراطى هناك الكثير لمصالحها المهمة، ومن هنا يمكن لبايدن فرض عقوبات قاسية، وحظر دخول لقادته العسكريين للأراضى الأمريكية ووقف المساعدات للسودان فى كل أشكالها
ويشير تعامل إدارة بايدن مع المستجدات فى السودان إلى تراجع ومحدودية أهمية السودان فى سلم أولويات المصالح الأمريكية فى المنطق، إلا أن السودان كذلك يوفر فرصة جيدة لإدارة بايدن لإظهار دعمها للتحول الديمقراطى فى الوقت ذاته.
فالسودان بعيد كل البعد عن الأولوية الجيوستراتيجية لواشنطن، ولا يعنى إخفاق عملية الانتقال الديمقراطى هناك الكثير لمصالحها المهمة، ومن هنا يمكن لبايدن فرض عقوبات قاسية، وحظر دخول لقادته العسكريين للأراضى الأمريكية ووقف المساعدات للسودان فى كل أشكالها، وعرقلة ومنع تعامل صندوق النقد والبنك الدوليين مع الخرطوم.
***
والسودان لواشنطن ليس كمصر وليس كالمملكة العربية السعودية من حيث الأهمية الاستراتيجية الخادمة لمصالح الولايات المتحدة الواسعة. والسودان لا تجمعه علاقات عسكرية قوية بالبنتاجون، ولا يشترى أسلحة أمريكية بمليارات الدولارات سنويا، ولا يوجد تبادل تجارى ذات شأن بين السودان والولايات المتحدة، ولا ترتبط النخبة العسكرية أو المدنية السودانية بواشنطن. ولا تتمتع الجالية السودانية داخل الولايات المتحدة بثقل انتخابى أو وزن اقتصادى ومالى كبير ليكترث بها صانعو القرار فى واشطن. ولا يعرف عن النظم السودانية المتعاقبة الاستعانة بشركات اللوبى والعلاقات العامة للتواصل والتأثير على صانعى القرار فى واشنطن كغيرها من الدول غير الديمقراطية التى لا تتردد فى إنفاق ملايين الدولارات لتلميع صورتها داخل دوائر ومراكز القوة فى واشنطن.
ولم تفرض إدارة بايدن عقوبات جادة على دول حليفة منتهكة لحقوق الإنسان، لأن لذلك البديل تكلفة سياسية كبيرة. وتكتفى واشنطن الآن بتوجيه انتقادات والعتاب إلى حلفائها بسبب سجلات حقوق الإنسان وغياب الممارسات الديمقراطية. فبايدن وكبار مساعديه هم أبناء المدرسة الواقعية فى إدارة السياسة الخارجية الأمريكية التى تنتصر فى النهاية لمصالحها ولو على حساب قيمها ومبادئها.
وفى الوقت ذاته، تستطيع الإدارة الأمريكية الإقدام على عكس ذلك فى الحالة السودانية، ويمكنها أن تنتصر للقيم والمبادئ على حساب ما يجمعها من مصالح بسيطة مع الخرطوم. وسبق أن ناصبت واشنطن نظام عمر البشير العداء لأكثر من 3 عقود، فقد صنفت الولايات المتحدة السودان دولة راعية للإرهاب عام 1993، وفرضت الكثير من العقوبات التجارية والاقتصادية مرتين عامى 1997 و2006، وخفضت مستوى العلاقات الدبلوماسية، ورفض المسئولون الأمريكيون الاجتماع مع البشير لأكثر من عقد من الزمان، وعزلت واشنطن السودان فعليا عن العالم الغربى. ولن يكلف واشنطن الكثير العودةُ لنمط المقاطعة وفرض العقوبات كما فعلت لعقود مع النظام السودانى السابق.
***
لقد أخفقت الأجندة الديمقراطية للرئيس الأمريكى جو بايدن بشكل واضح خاصة فى منطقة الشرق الأوسط، ففى الوقت الذى تعهد فيه بايدن خلال حملته الانتخابية بالاختلاف عن سلفه الرئيس دونالد ترامب فى الاحتفاظ بعلاقات خاصة ومميزة مع دول تقمع شعوبها ولا تكترث بسجلات حقوق الإنسان؛ دفعت مصالح واشنطن بايدن وإدارته للحفاظ على خصوصية علاقاتها مع دول منتهكة لحقوق الإنسان ولا تتبع أى معايير ديمقراطية حديثة متعارف عليها.
وقبل استضافة بايدن يومى التاسع والعاشر من كانون الأول/ ديسمبر الأول المقبل قمةً افتراضية من أجل الديمقراطية سيُدعى إليها رؤساء دول وحكومات ديمقراطية وأعضاء المجتمع المدنى ــ على أمل أن يحسن صورة بلاده بعدما أظهر الرئيس السابق دونالد ترامب تجاهلا كبيرا لقضايا حقوق الإنسان والحريات حول العالم ــ قد تمثل الحالة السودانية للرئيس الأمريكى وسيلة يستخدمها لتجديد ادعائه الانتصار للقيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان حول العالم.
(*) بالتزامن مع “الشروق”
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  ترميم العلاقة التركية الاسرائيلية.. هل من كيمياء بين أردوغان وبينت؟
محمد المنشاوي

كاتب متخصص في الشؤون الأميركية، مقيم في واشنطن

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  تل أبيب تخوض حرباً سرية ضد نفط إيران.. وتمويل حزب الله