في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، إستغل أبيي أحمد إنشغال العالم بالإنتخابات الرئاسية الأميركية ليشن حرباً لإخضاع إقليم تيغراي المتمرد على سلطة أديس أبابا. وإستعان في ذلك بميليشيات من إقليم أمهرة وبجنود أريتريين أرسلهم صديقه أسياس أفورقي لتصفية حسابات تعود إلى عامي 1998-2000، عندما شنّت اثيوبيا التي كانت تقودها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، حرباً حدودية ضد أريتريا المستقلة حديثاً، مما أسفر عن مقتل عشرات الآلاف وتشريد الملايين. لم يكن أبيي أحمد يدرك أن الحرب التي شنّها على تيغراي، ستتحول إلى نوع من المغامرة بمصير أثيوبيا ومصير القرن الأفريقي بكامله، لأنه إذا ما تفتت أثيوبيا إلى دويلات على أساس أتني، من يضمن أن لا تنتقل العدوى إلى الجوار الذي يعيش تاريخياً على حافة الفوضى، كونه منطقة إستراتيجية كانت على الدوام ساحة صراع دولي.
ألا يطرح تساؤلاً عميقاً أن تختار الصين قبل أعوام جيبوتي، لتنشىء فيها أول قاعدة عسكرية لها خارج أراضيها؟ وبالمعيار نفسه، لماذا تستميت روسيا كي تقيم قاعدة بحرية لها في بورتسودان؟ وإسرائيل هي الأخرى موجودة في المنطقة بأشكال مختلفة، ناهيك عن محاولة تركيا أيضاً إقامة موطىء قدم لها في المنطقة.
أثيوبيا تواجه مصيراً مجهولاً. قد تطول الحرب، لكنها ستفضي في نهاية المطاف إلى إتفاق ما بين الإتنيات من دون تبين معالم هذا الحل: هل تتجه كل إتنية إلى إعلان إستقلالها عن المركز وتمضي على طريق يوغسلافيا السابقة وتالياً بلقنة القرن الأفريقي بكامله؟
إذن، لا يمكن فصل اللهيب الذي يلف أثيوبيا الآن عن الصراع الدولي على منطقة القرن الأفريقي. ومن يفوز بأثيوبيا ذات الـ 110 ملايين نسمة والمساحة المترامية، يفوز بالمنطقة. ومن هنا يصير مفهوماً لماذا سارع المبعوث الأميركي جيفري فيلتمان إلى أديس أبابا في محاولة لإطفاء النار وإقناع أبيي أحمد القبول في الدخول بحوار مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي لم تعد وحدها بعد إنضمام جيش تحرير أورومو إلى الزاحفين نحو العاصمة.
على رغم أن القومية التيغرانية لا تشكل سوى 6 في المئة من سكان أثيوبيا، إلا أن الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي هي التي قادت حرب العصابات التي إستمرت سنوات ضد نظام منغستو هيلا مريام وإنتهت بسقوطه عام 1991. ومن ثم حكمت الجبهة 27 عاماً متواصلة قبل أن تطيح بها تظاهرات شعبية واسعة عام 2018، التي شهدت صعود أبيي أحمد إلى السلطة وبدئه بتفكيك “الدولة العميقة” التي أسّسّتها الجبهة الشعبية، الأمر الذي جعل التيغرانيين ينكفئون إلى داخل إقليمهم ويطالبون بمزيد من سلطات الحكم الذاتي، حتى إنفجر الخلاف على الإنتخابات التي كانت مقررة صيف 2020. قرر أبيي أحمد إرجاء الإنتخابات بينما عمدت سلطات تيغراي إلى إجرائها. وهذا ما إعتبره رئيس الوزراء تحدياً لسلطاته، فقرر شن الحرب لتأديب الإقليم.
وفعلاً، أعلن أبيي أحمد بعد أسابيع من العمليات العسكري السيطرة على الإقليم وطرد الجبهة الشعبية التي لجأت إلى الجبال. أسّست الحرب لتأجيج الخطاب الإتني، خصوصاً بعد الفظاعات التي إرتكبها الجيش الفيديرالي والجنود الإريتريون وميليشيات الأمهرة في تيغراي، بحسب تحقيق أجرته الأمم المتحدة. وأسفرت الحرب عن مقتل الآلاف وتشريد نحو مليونين. وعلى رغم المناشدات الدولية، لا تزال السلطات الفيديرالية في أديس أبابا تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى تيغراي المهدد بالمجاعة، كورقة ضغط على الجبهة الشعبية كي توقف القتال.
وكان العامل الحاسم في قلب موازين القوى لمصلحة الجبهة الشعبية في تيغراي هو إنسحاب الجيش الأريتري من المعارك تحت الضغط الدولي، والتهديد بفتح تحقيقات بجرائم ضد الإنسانية، مما جعل أبيي وحيداً في ساحة المعركة التي لم يمض أشهر معدودات على إحتفاله بالنصر، حتى أن الميدان راح ينقلب لمصلحة التيغرانيين الذي أكملوا تقدمهم بعد طرد الجيش الفيديرالي من العاصمة ميكلي، إلى إقليمي أمهرة وعفر، وهذا ما وضعهم على مسافة أقل من 400 كيلومتر عن أديس أبابا، فيما يتركز هجومهم الآن على الطريق الإستراتيجي الواصل بين العاصمة وجيبوتي. ومن شأن قطع الطريق أن يوجه ضربة قوية للقوات الفيديرالية، لا سيما وأن أثيوبيا لا تطل على أي منفذ بحري.
العامل الحاسم في قلب موازين القوى لمصلحة الجبهة الشعبية في تيغراي هو إنسحاب الجيش الأريتري من المعارك تحت الضغط الدولي، والتهديد بفتح تحقيقات بجرائم ضد الإنسانية، مما جعل أبيي وحيداً في ساحة المعركة التي لم يمض أشهر معدودات على إحتفاله بالنصر
ومع تقدم الجبهة الشعبية وجيش تحرير أورومو في إتجاه أديس أبابا، ذهب أبيي أحمد مسافة أبعد في تأجيج الخطاب الإتني، بإعلانه حال الطوارىء ودعوة أبناء العاصمة إلى حمل السلاح والدفاع عن أنفسهم ضد “العصابة المجرمة” وإستخدم لغة بالغة التشدد عندما قال: “إننا نحفر حفرة لدفن الأعداء فيها بدمائنا وعظامنا”. وعمد الفايسبوك إلى حذف كلام أبيي أحمد معتبراً أنه ينطوي على خطاب يحرّض على الكراهية.
وترجم الخطاب الإتني المتصاعد، بشن حملة تطهير عرقي ضد التيغرانيين الذين كانوا لا يزالون موجودين في العاصمة، فكان أن لجأ الكثير منهم إلى السفارات الأجنبية طلباً للحماية بعدما أحرقت منازلهم ومتاجرهم.
المشهد المأسوي السائد الآن في أثيوبيا، لم يكن متصوراً قبل عقدين عندما بدأت البلاد تحقق نمواً إقتصادياً ملحوظاً. وعندما تولى أبيي أحمد السلطة، نال عطفاً غربياً وبدا طامحاً إلى دور إقليمي على صعيد القارة، خصوصاً في ظل تراجع أدوار دول مثل جنوب أفريقيا ومصر ونيجيريا وكينيا. وبعد توقيعه على معاهدة السلام مع أريتريا، نال بريقاً إقليميا ودولياً تُوّج بمنحه جائزة نوبل للسلام عام 2019.
هل هو الغرور أم الإستعجال أم الفهم الخاطىء للتوازنات الداخلية والإقليمية، هي التي جعلت أبيي أحمد يُعلن الحرب على تيغراي، في الوقت الذي كاد يتسبب بحرب مع مصر والسودان، لإصراره في العامين الماضيين على المضي في ملء سد النهضة المقام على النيل الأزرق، من دون إتفاق مسبق مع السودان ومصر؟
أثيوبيا تواجه مصيراً مجهولاً. قد تطول الحرب، لكنها ستفضي في نهاية المطاف إلى إتفاق ما بين الإتنيات من دون تبين معالم هذا الحل: هل تتجه كل إتنية إلى إعلان إستقلالها عن المركز وتمضي على طريق يوغسلافيا السابقة وتالياً بلقنة القرن الأفريقي بكامله؟ لكن من المؤكد أن “إمبرطورية” هيلا سيلاسي ستكف عن الوجود بالشكل الذي كانت عليه.