سماح إدريس: لبنانيٌّ كما نعرف.. فلسطينيٌّ كما ينبغي

غادرنا سماح إدريس. قرر ألا يُفاجئنا. ذاب أمامنا كالشمعة. تركنا نتلو الصلوات. كُنا نريدك بيننا يا رفيق سماح، فالدرّب طويل والتعب قصير والحقيقة باقية والاحتمال وارد والزمن أمين وفلسطين ستتحرر والحريّة قادمة.

إرتبط سماح بوالده سهيل إدريس. حملا مشروعاً متشابهاً، وحلُما بمستقبل واحد. ليس واعداً تماماً كما يفضي الواقع عادةً إلينا عندما يتعلّق الأمر بشيّء يسير من طموحٍ مشروع، وإنّما واقعٌ تتنعمُ فيه شعوبٌ محرومة بحقوقها الطبيعيّة. تلك التي أقرّتها الشرائع وسطّرتها القوانين.
كان والده سهيل (2008-1929) روائياً وقاصاً وناقداً ومترجماً وصحافياً وأكاديمياً وناشراً. عرفه الشباب بالقواميس وأدركهُ الكبار بالأفكار. فكانت التركة على غرار ذلك، أثقل على ابنه من مجرد جيل يلي جيلاً. ففضلاً عن أنّ والده كان من أبرز مؤسسيّ اتحاد الكتاب اللبنانييّن، ومحرّراً بارزاً في “أخبار المساء” و”الأنوار” و”الصياد” و”الجديد”، فقد أسّس مشروع العمر الثقافي لكل العرب وقتها، عندما أنشأ رفقة بهيج عثمان ومنير البعلبكي مجلة “الآداب” سنة 1953، قبل أن يختطّ لها طريقاً شخصياً سادهُ التصوّر المنفتح على الأفق القومي التحرّري بتاريخ 1956.

ثم جاءت “دار الآداب” التي تُعدّ أهمّ دار نشر عربيّة، تمّ تشييدها في نفس السنة (1956) التي استقلّ فيها سهيل عن شريكيّه بهيج ومنير. فكأنّما جاءت الدار لتضمن للمجلة الخلود في ضوء المصير المحتوم لأوراق الصحف والمجلات اللبنانية والعربية، لكن برغم ذلك نجت مجلة “الآداب” قياساً بغيرها، من النسيان والتلاشي وصمدت طويلاً. وبرغم أنّها تحوّلت إلى مجلة إلكترونيّة سنة 2012 في ظل سطوة الصورة الضوئيّة وتراجع حظوة الورق، بقيت المجلة محتكرةً للحق التقليدي في تصنيف الأدباء بعد النشر فيها. وقلّة هم من لا يعظّمون من شأنها ويجلّون قدرها.

هذا المسار الشاقّ والمثقل بكل أنواع النجاحات، زاد من صعوبة البدء من نقطة الذات التي يحدّدها عادةً الأبناء فراراً من جلباب الآباء، ذلك أنّ الابن الذي يتحرّر من تاريخ والدهِ؛ يُكنّ لهُ احتراماً مكيناً وقدراً حصيناً، إذ يستقلّ عن مساحة شغلها الوالد ولم يُبقِ خلالها أيّ مكان للإضافة أو محلاً للإجتهاد، عدا تلك الإضافة الرمزيّة التي تُوصف في أدبياتنا بـ”الأثر الطيب”، وفي غالب استعمالاتها لا تزيد عن ثقافة بعينها لا تزال تأتزر بالآباء حين يتعلّق الأمر بتقييم الأبناء. هذه الثقافة الجوهرانيّة حُسمت لصالح المدينة في نزالها المديد مع الريف.

نال سماح إدريس شهادة الدكتوراه من جامعة كولومبيا في نيويورك في دراسات الشرق الأوسط، والماجستير من الجامعة الأميركيّة في بيروت في الأدب العربي، والبكالوريوس من الجامعة نفسها في الاقتصاد. له كتابان في النقد الأدبي: “رئيف خوري وتراث العرب” و”المثقف العربي والسلطة: بحث في روايات التجربة الناصريّة”. وله سبعة كتب للأطفال (الموزة؛ الكل مشغول؛ أم جديدة؛ تحت السرير؛ قصة الكوسى؛ البنت الشقراء؛ مشمش)، وأربع روايات للفتيات والفتيان. له مئات المقالات في السياسة، الأدب، اللغة، وأدب الأطفال. ترجم عشرات المقالات، وأربعة كتب (اثنان منها مع أيمن حداد). رئيس تحرير مجلة “الآداب” (1992- 2021) أحد المؤلفين الأساسييّن لمعجم عربي ـ عربي ضخم يصدر قريبًا. أحد مؤسسي حملة مقاطعة داعمي “إسرائيل” في لبنان. رئيس نادي الساحة الثقافي (2000-2004). ناشط في مجال دعم القضية الفلسطينيّة، ونشر الفكر العلماني، وتجديد الفكر القومي العربي1.

التعب والمرض

سريعاً مثلما تخبو الصحة وتغدر الجوارح، لم يكن أحد يعتقد – بمن فيهم سماح- بأنّ التعب والمرض قد ينالان سريعاً من جسدٍ اعتاد ألا يستريح البتة. فهو إمّا في الساحات يتظاهر متضامناً أو مندّداً، أو جائلاً في معارض الكتاب في كل الدنيا، عارضاً للناس في كل مكان ما زهدوا فيه إلا قلّة منهم، حتى أنه في زمن كورونا، أبى إلا أن يقاوم. لم تتوقف المجلة ولا الندوات، بل شهدنا له غزيراً في المعاندة وعميقاً في إختيار الموضوعات والأسماء.

لطالما كانت القلّة رهانهُ الدائم. قلّة تتضاءل يوماً تلو آخر. بقيّة باقية تمتثل إلى ندرةٍ مستمرة. تعود حيناً لكي تبرهن أنّها نافذة في القرار الثقافي في مكانٍ ما من سطح المُتخيّل، ثم ما تلبث أن تشعر بأنّ الثقافة في حدّ ذاتها باتت نافدة من البذار السياسي والمجتمعي، ومحلّ تورّعٍ إداري وزهد بيروقراطي.

نال المرض من سماح وأرهقتهُ كليتاه. كنا نُردّد أنه لم يعد هنالك ما يمكن التعويل عليه إلا إرادةٌ قويّة في المقاومة ورغبة صارمة في الحياة. هكذا نقول عادةً حين تُفقدنا الحيلة تلك الحاجة الثمينة من الثقة في العلم.

لكن برغم ذلك، ثمة أكثر من قيمة نستعيد بها أنفسنا الضائعة عندما نتعب. فقد نمتزج لأوّل مرةٍ تماماً مع ذواتنا واحتمالاتنا. تستحيل حدوسنا لحظتها إلى مشاعر وأفكارنا إلى جوارح. قد تكون التكلفة باهظةً ومرهقة ولكنّها كما الحياة تماماً، لا تستحقّ المعاناة من أجلها فقط إلا عندما تستحقّ أن تُعاش من أجل معاناة الآخرين. وسماح فقه هذه المعادلة جيداً، فنذر نفسه للدفاع عن القضية الفلسطينيّة. وحدّد لنفسه هدفاً من معمار النضال الضخم، حتى لا تتحوّل جهودهُ إلى نزيفٍ مُشتّت، فآل على نفسه أن يختار من العصا موضع المكسر: مقاطعة داعمي إسرائيل. هذه الحركة التي تكلّف سلطات الاحتلال متاعب ماديّة وأضراراً أخلاقيّة جسيمة، فقد ساهمت وبقوّة كبرى في جعل أنظار العالم تتّجه إلى جدلية الجلاد والضحية، بلّ إنّها صارت شبحاً حقيقياً أمام كيانٍ تحاصرهُ نُذر التبدّد. وللمفارقة هم أنفسهم من يُغذّون كل خطاباتهم السياسيّة بمخاوف الإندثار إذا لم تسرِ صفقة أو تنجح خطة. سماح فقه هذا فسار على نهجه في التلويح به واستدامة البناء عليه.

إقرأ على موقع 180  مريم العفيفي.. الكونترباص الحزين

الحالة التي مرّ بها سماح إدريس طوال شهور إنقضت نالت أصداءً معتبرة، فقد جعلت الكثير من المغيّبين في السجون يعودون إلى الواجهة. الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد السعدات خاطب عايدة إدريس (أم سماح) وإبنتي سماح (سارية وناي) من سجن ريمون الصحراوي في فلسطين المحتلة. جورج عبدالله من النادر أن يشارك في النقاش العام من معتقله في فرنسا لأسباب كثيرة، لكنّه هذه المرة رأى من سجنه في لانميزان أنّه من الضروري أن يُبرق لسماح تمنّياته الخالصة بالشفاء. قال جورج مخاطباً رفيقه: “دكتور سماح.. صدى هذه الكبوة الصحية ثقيل الوطأة في زنازين الاعتقال لكن الثقة كبيرة. دُم سالماً أيها الرفيق العنيد ومنارة لمسارات تحرير فلسطين وجماهير أمتنا العربية”.

رفيق سماح؛

دُمت حياً بنتاجك ونزاهتك وصدقك وأخلاقك ومناقبيتك.. وكل أحبتك.

 

Print Friendly, PDF & Email
ضيف حمزة ضيف

كاتب وصحافي جزائري

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  لبنان بين حُكّام يراوغون للبقاء و"ثورة WhatsApp" مُتعثرة!