الأسئلة الخطأ تفضى بالضرورة إلى الإجابات الخطأ.
كانت مصر أول دولة عربية وقعت معاهدة سلام مع إسرائيل عام (1979)، غير أن تجربتها على مدى أكثر من أربعة عقود ناقضت رهانات «السلام الدافئ» بقوة الرفض الشعبى، التى تصدرها مثقفون ونقابيون وسياسيون من جميع الاتجاهات الوطنية.
من أبرز الأسماء التى تصدرت المشهد الاحتجاجى التاريخى «البابا شنودة الثالث» بطريرك الكنيسة الوطنية المصرية.
كان زعيمًا سياسيًا محنكًا بالمعنى الاصطلاحى برغم منصبه الدينى الرفيع.
هو مزيج خاص واستثنائى بين رجل الدين ورجل السياسة، ولعل الفراغ السياسى وغياب عناصر مدنية مسيحية فى صلب الحياة السياسية، مع شعور قطاع واسع من الأقباط بالغبن والتهميش، أفسح المجال واسعًا أمام دور سياسى مباشر يلعبه فى مقدمة مسرح مفعم بالتحولات والصراعات والانقلابات السياسية.
صعد إلى كراسى البابوية بعد سبعة أشهر من رحيل «جمال عبدالناصر» فى (28) سبتمبر/أيلول (1970)، وتولى «أنور السادات» مقاليد السلطة.
شاءت الأقدار ــ أقدار البابا وأقدار مصر ــ أن تتغير الرئاسة فى البلد والكنيسة فى توقيت متزامن.
عندما كان على “شنودة الثالث” أن يختار بين رئاسة الدولة والرأى العام فيها، اختار بلا تردد أن يصطدم مع «السادات»، مدركًا أنه إذا ما جاراه فى التطبيع فسوف تلحق بالأقباط أضرار أفدح لا يمكن تداركها وشروخ لا يمكن ترميمها فى النسيج الوطنى
جاء «شنودة» إلى رئاسة الكنيسة فى سن الثمانية والأربعين بأفكار جديدة ورؤى ترغب فى تجديد الكنيسة المصرية وتحديثها، ثم دعت صراعات السياسة وانقلاباتها إلى استبدال علاقة الانسجام بين رئاسة الدولة ورئاسة الكنيسة فى عصر «عبدالناصر» والبابا «كيرلس السادس» إلى صدام بين الرئاستين أواخر عهد «السادات» وصلت تداعياته إلى وضع البابا تحت الإقامة الجبرية فى دير «وادى النطرون» أثناء اعتقالات سبتمبر/أيلول (1981)، التى استبقت بشهر واحد حادث المنصة الدموى.
عندما ذهب «السادات» عام (1977) إلى القدس، مانع «شنودة» فى الذهاب معه، ثم حسم أمره سريعا فى رفض اتفاقيتى «كامب ديفيد» (1978)، وما يترتب عليها.
كانت حسابات البابا ــ السياسية قبل الدينية ــ أن مجاراة رئاسة الدولة فى سياساتها المستجدة قد يدفع قطاعات واسعة من الرأى العام العربى، فى مصر بالخصوص، إلى التشكيك فى الانتماء العربى لأقباط مصر.
«لسنا خونة الأمة العربية» على ما دأب أن يقول بحسم.
عندما كان عليه أن يختار بين رئاسة الدولة والرأى العام فيها، اختار بلا تردد أن يصطدم مع «السادات»، مدركًا أنه إذا ما جاراه فى التطبيع فسوف تلحق بالأقباط أضرار أفدح لا يمكن تداركها وشروخ لا يمكن ترميمها فى النسيج الوطنى.
رفع رأسه معتزًا بدوره وهو يقول: «أنا آخر البوابات العظام الذين قالوا لا للمحتل».
هكذا وصف الصورة التى أراد أن يدخل بها التاريخ.
فى التفاتة رجل لديه حس استثنائى بالتاريخ أغلق ذات حوار بيننا جهاز التسجيل.
سألنى: «هل تعتقد أن كل الدول العربية والإسلامية سوف تعترف بإسرائيل؟».
أجتبه على الفور: «لا».
قال: «إذن لن أذهب إلى القدس أبدًا».
كانت تلك درجة أكثر تشددًا فى رفض التطبيع مع إسرائيل، أو زيارتها، أو السماح للأقباط بالحج إليها.
فى البداية، قال: «لن أزور القدس إلا مع شيخ الأزهر».
ثم فكر فى احتمال أن يزور شيخ الأزهر المدينة المقدسة، وأن يكون الرأى العام العربى غاضبًا ومعترضًا.
رأى أن الأوفق ألا يزورها حتى لو ذهب إليها شيخ الأزهر.
تصادم ذلك الموقف المتشدد مع مصالح بعض العائلات القبطية، التى لها صلات بالولايات المتحدة ومصالح محققة فى الغرب، متصورة بالوهم أن حماية الأقباط فى علاقات دافئة مع إسرائيل.
«الحج لكنيسة القيامة الآن خيانة للمسيح».
سألته «هل أنت مطمئن يا قداسة البابا إلى أن من سوف يأتى بعدك سوف يلتزم بتوجهاتك الرئيسية فى رفض التطبيع مع إسرائيل». كانت إجابته: «ما أعبر عنه هو التيار الرئيسى داخل الكنيسة المصرية، وهذه مدرسة لى فيها تلاميذ أوفياء سوف يحملون الراية بعدى».. وهذا ما حدث
أدار معركته بثقة فى قوة مركزه وضرب بقبضة البابوية من أسماهم «المتأمركين الأقباط».
كنت من الذين نصحوا البابا ــ فى تلك الأيام البعيدة ــ أن يدخل المواجهة بنفسه، يلقى بثقله فى ميادينها، أن يكون هو بقضيته موضوع المواجهة.
حسم الموقف بأسرع من أى توقع وحاز فى الوقت نفسه على شعبية كبيرة فى العالم العربى.
وصفته قبل أن تمتد الحوارات بيننا بـ«البابا العربى».
أرسل سكرتيره الصحفى الأستاذ «طلعت جاد الله» برسالة مختصرة: «البابا يريد أن يراك».
بحسه السياسى استمع وهو فى مكتبه أصوات مظاهرات طلاب جامعة عين شمس وقد وصلت إلى ميدان العباسية تتضامن مع العراق المحاصر وتستعيد مواقف «جمال عبدالناصر».
أراد أن يستمع لوجهات نظر أخرى فى الحياة العامة المصرية عند منتصف تسعينيات القرن الماضى.
كان تلك حسابات رجل سياسة محنك وقدير.
كان يدرك أن حماية الرأى العام المصرى والعربى قادرة على صيانة الكنيسة من التفكك والضعف.
مع بداية عصر «مبارك» مالت العلاقة بين الكنيسة والدولة إلى نوع من التهدئة والتعايش وتجنب الصدام، الذى شابها فى سنوات «السادات».
فى بعض الأوقات شاب العلاقة بين رئاسة الدولة ورئاسة الكنيسة نوعا من الفتور، وبدا أن قنوات الاتصال غير سالكة أو غير موجودة، وهو ما سمعته من البابا «شنودة» شاكيًا من أن أحدًا لا يتابع الكنيسة القبطية ويساعد على تذليل ما يعترضها من أزمات ومشكلات كما كان يفعل الدكتور «مصطفى الفقى» سكرتير الرئيس للمعلومات قبل أن يغادر منصبه.
كانت للبابا «شنودة» صفتان، رجل سياسة صاحب رؤية للعلاقات بين المسلمين والأقباط وإدارة الحوار مع الدولة وضبط إيقاع التفاعلات، وهو ــ هنا ــ متشدد قوميًا من حيث المبادئ العامة ومرن سياسيا فى العلاقة مع الدولة، غير أن صفته الثانية كرجل دين، وهى الأصل تضع حدودا لرجل السياسة.
رجل الدين، الذى هو رأس الكنيسة، تحاصره الشكايات، وبعضها مغلف بأجواء احتقان طائفى وعليه ــ بحكم الواقع ــ أن يبدو مدافعًا عن طائفته.
عندما تصاعدت أدوار جماعات أقباط المهجر، لم يكن مستريحًا لمثل هذا الصعود، الذى أخذ يطرق مجالسه، وترتفع الأصوات فيها بالغضب.
برغم ذلك نجح إلى حد كبير فى ضبط الإيقاع، والتأكيد على ضرورة حل مشاكل الأقباط فى إطار الجماعة الوطنية المصرية.
فى حواراتنا المتصلة قال لى ذات مرة إنه يرفض التمثيل النسبى للأقباط فى المجالس الدستورية، ولا يعنيه عدد الأقباط فى التشكيل الحكومى.
اعتبر أن بعض الوزراء الأقباط عبء على الكنيسة.
شرح وجهة نظره على النحو التالى: «لو أن هناك محافظًا قبطيًا ــ لم يكن هناك محافظ قبطى فى ذلك الوقت ــ تبنى قضايا الأقباط فسوف يقال عنه إنه متعصب، أما إذا تبناها محافظ مسلم فسوف يقال عنه إنه متسامح».
كانت تلك رؤية نافذة لرجل يدرك معنى السياسة وتعقيداتها.
فى مطلع القرن سألته «هل أنت مطمئن يا قداسة البابا إلى أن من سوف يأتى بعدك سوف يلتزم بتوجهاتك الرئيسية فى رفض التطبيع مع إسرائيل حتى لا تكون هناك فتنة أو اتهامات لأقباط مصر بأنهم خونة الأمة العربية، على ما تحذر دائمًا؟».
كانت إجابته: «لا تقلق، فما أعبر عنه هو التيار الرئيسى داخل الكنيسة المصرية، وهذه مدرسة لى فيها تلاميذ أوفياء سوف يحملون الراية بعدى».. وهذا ما حدث.
(*) بالتزامن مع “الشروق“