أسدٌ جائعٌ.. بلدٌ فالتٌ!

قبل عشرة أيام، أراد الأهل إيجاد فسحة لأطفالهم لمناسبة الأعياد، فاختاروا لهم أن يتعرفوا على حديقة حيوانات في إحدى مناطق لبنان. هناك لم يكن ينتظر الأطفال لا الترفيه الموعود ولا إبتسامة تُزنّر محيا ذويهم. وجدوا مأساة وكان يمكن أن تصل إلى أكثر من جريمة.

كلما حاولنا إبعاد أطفالنا عن مآسي هذا البلد، كلما كانت وطأة المعاناة أكبر، كيف يمكن أن نصدّق أنّ أسداً يهاجم طفلاً وينهش جسده الغضّ ويُرعب روحه البريئة في ثوان قصيرة لكن أثرها سيمتد لسنوات طويلة.

 كيف يُمكن أن نصدق أن هذه الواقعة حصلت في حديقة حيوانات (Animal City) في الثالث عشر من الشهر الجاري في إحدى المناطق اللبنانية؟

كيف يمكن لحديقة حيوانات أن تستقبل الأطفال وطلاب المدارس ولا تكون مُحكمَة الحماية ومُتقنة الأمان ومستوفية للمعايير والشروط؟

كيف يمكن بكل بساطة أن يحفر أسدٌ بأنيابه ومخالبه 21 جرحاً بليغاً معظمها في عنق طفل تطلبت عمليات جراحية دقيقة لتضميدها، ومن سيضمّد الروح الواهنة بعد هذه الصدمة؟

لم يكن الخبر عادياً بالنسبة إليّ، لا بل عجزت عن إسناد جسدي لإكمال سماع القصة عبر شاشة التلفزيون ـ عذراً الحادثة ـ لأنها ليست قصة وليست أيضاً حادثة. ما حدث بمعزل عن أسبابه وظروفه هو جريمة آثمة بحق كل أطفال لبنان وكل طفل هو مشروع ضحية بعد الذي شهدناه وسمعناه.

أجسادنا تشفى ولكن الروح التي أمعن سياسيو الوطن في تمزيقها صارت عبارة عن صفحة آلام مفتوحة طالما تشي واقعة تلو أخرى أنّ إنسان هذا البلد بلا قيمة.

 كيف استطاع جدّ هذا الطفل الضحية الذي قرّر أن يصطحب أحفاده الثلاثة –  (ست وأربع وثلاث سنوات) – للترفيه عنهم، كيف استطاع أن ينتزع الطفل من بين أنياب الأسد، كيف أستطاع وأنا أعرف خيانة الجسد لنا في لحظات الخوف والخطر خصوصاً عندما نواجه الموت؟

كيف استطاع هذا الجد الذي خسر سابقاً إبنه الذي كان في ريعان شبابه بسبب حريق في أحد المنتجعات الجبلية، أن يسحب الطفل؟ كيف مرت عليه تلك اللحظات الثقيلة، هل تأذن له ذاكرته أن يعيدها ويستعيدها أم أنها ستدفنها مع آلام مكبوتة في لاوعيه ـ لاوعينا المثقل بالصور السوداء؟

لحسن حظ هذا الطفل أن الله كتب له عمراً جديداً، ولحسن حظ أمه وأبيه وجدته أن جدّه أبعده عن أسد جائع، لكن من سيُبعدُ أطفالنا ويحميهم من الوحوش التي أعلت تصنيف لبنان إلى موقع متقدم على لائحة الفساد والرداءة وكل ما يحويه قاموس اللغة من مفردات لا تكفي لوصف أولياء أرواحنا في هذا البلد

عندما رأيت جروح هذا الطفل إبن الثلاث سنوات، غشيت عيناي بلون أحمر ودموع حمراء، ماذا فعلت أمّه، ماذا سأفعّل أنا لو أنّ ما حصل معه حصل مع أطفالي الذين لطالما زاروا هذه الحديقة خلال الرحلات المدرسية؟ كانوا يتنقلون بين أقفاص الوحوش التي تسكن الغابات، ولكنهم لم يدركوا أنّ الوحوش الحقيقية تفترس مستقبلنا ومستقبلهم بكل إهمال وسوء إدارة وغياب رقابة عن كل مرافق هذا البلد؟

لو حصل مكروه أكبر ـ لا سمح الله ـ وهو احتمال قد يواجه كل طفل يعيش في هذه الغابة المسماة وطناً، هل كانت والدته ستصرخ بلا صوت، كما كنت أفعل عندما كانت طائرات إسرائيل تقصف قريتي، وهل كنت سأخفي رأسي تحت طاولة المدرسة آملة في حماية نفسي من الموت القريب، هل كنت سأستطيع أنا أنقذ طفلي او أطفال غيري؟ هل كان سيفوت الأوان ويبقى العجز مخيماً في قلبي؟ هل كان يُمكن أن أعود إلى بيتي وأخبر جيراني أن إبني إلتهمه أسدٌ “بالغلط”؟ وهل يمكن أن يُؤمّن أحدٌ منا على إدارة مدرسة تقرر إرسال أطفالنا إلى رحلة سوداء جديدة وإلى موت جديد؟

يا لسخرية بلد نعيش متنقلين بين موته وموتنا، متكئين على حظ وصدفة وعلى ورقة تسقط من شجرة العمر بسبب وهنها وتعطشها إلى تربة صالحة تمدّها بمقومات الحياة.

لحسن حظ هذا الطفل أن له عائلة تستطيع أن تُهدىء روحه المرتجفة. لحسن حظه أن جده لم يفكر عندما قرر أن “يتهور” مقارعاً حيواناً شرساً وهو الذي اعتاد أن يكون نموذجاً للتسامح؛ نموذجاً للعمل الأهلي الإجتماعي بمضمون إنساني ووطني وقومي لا غبار عليه.

 لحسن حظه أن والده ووالدته لن يُهملا القضية قانونياً. هذه المسألة تخص كل طفل في هذا البلد قد يكون عرضة للخطف بأنياب أسد فالت أو سياسي أعطى رخصة أو صاحب حديقة حيوانات تساهل في تطبيق إجراءات السلامة.

 لحسن حظ هذا الطفل أنّ لعائلته القدرة على بلسمة جراحه الجسدية والنفسية، بينما الكثير من الأطفال صاروا بالغين وما زالوا يقاسون مرارة الواقع وأنين الذكريات المفتوحة التي يعجزون عن تغليفها بضمادات نفسية تعتبر من الكماليات في بلد نعجز عن تأمين لقمة العيش فيه.

ونحن نعرف أنه كلما حاولنا تطييب أرواحنا المتأوّهة كانت حوادث كحادثة حديقة الحيوانات تفتح جراحنا القديمة وتسرف في نبش عذابات الذاكرة.

إقرأ على موقع 180  شيطنوا طرابلس.. أنتم المجرمون!

 ولحسن حظ هذا الطفل أن الله كتب له عمراً جديداً، ولحسن حظ أمه وأبيه وجدته أن جدّه أبعده عن أسد جائع، لكن من سيُبعدُ أطفالنا ويحميهم من الوحوش التي أعلت تصنيف لبنان إلى موقع متقدم على لائحة الفساد والرداءة وكل ما يحويه قاموس اللغة من مفردات لا تكفي لوصف أولياء أرواحنا في هذا البلد.

Print Friendly, PDF & Email
مايا ياغي

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الدولار والليرتان السوريّة واللبنانيّة.. أولوية الإصلاح النقدي