اللبناني أين كان وأين أصبح.. ريما عبد الملك نموذجاً

في حمأة انشغال القوى السياسية اللبنانية بنتائج الإنتخابات النيابية، جاء تعيين ريما عبد الملك وزيرة للثقافة الفرنسية، ليؤكد حقيقتين، الأولى ترتبط بحجم إخفاق السياسيين اللبنانيين في إدارة شؤون بلدهم ودفعه نحو حالة الإحتضار، والثانية تتعلق بحجم الإبداع اللبناني، وصولاً إلى الإشراف على إدارة الشأن الثقافي في دولة تُعتبر إحدى أهم دول العالم في تكوين العقل البشري على المستويات الفكرية والفلسفية والسياسية والفنية في القرون الستة الأخيرة.

قبل العملية الإنتخابية الأخيرة بأيام قليلة، أصدر الفنان اللبناني ملحم زين اغنية بعنوان “إسأل ع اللبناني”، وقد استحضر في حملته الدعائية المصورة للأغنية مجموعة من العلماء والمبدعين والمفكرين اللبنانيين الذين أثروا الحياة العربية والدولية بأجناس مختلفة من الإبداع العلمي والأدبي والفكري والجمالي، من أمثال حسن كامل الصباح ومي زيادة ونصري شمس الدين وميشال شيحا وميشال تامر وسعيد عقل وكارلوس سليم وسلمى حايك وفادي الخطيب وجورجينا رزق وأمين الريحاني ومايكل دبغي وفيروز ومنصور وعاصي الرحباني وصباح ونجاح سلام ورمال حسن رمال وزكي ناصيف وجبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة ووديع الصافي وعبد الرحمن الباشا وغيرهم.

بالإمكان أن يُطلق المرء العنان لمخيلته، فتتبع فائض القيمة الثري الذي أنتجه هؤلاء المبدعون في مجالات اعمالهم، ومقارنته بأصفار القيمة (والقيم) وما تحتها التي سيتركها السياسيون اللبنانيون الحاليون، بحيث لن ترث الأجيال المقبلة عنهم سوى سياسات التنابذ والتحاقد والتلاعن والتحارب، وقد لا تحفظ الذاكرة الآتية عن هذه الآونة إلا أن اللبنانيين قد جعلهم أهل السياسة في مرحلة من المراحل معلبات فائضة بروائح اللعنات والكراهيات المقيتة.

ليس أعظم من حسرة ولوعة يمكن ان تجتاحا اللبنانيين حين يقارنوا بين كيفية اختيار مبدعين لبنانيين في حكومات أجنبية، وبين كيفية اختيار الوزراء في حكومات لبنانية.. يا للهول! وكما تقول الأغنية الشعبية: سكابا يا دموع العين سكابا

ليس اللبنانيون هكذا، إنما أغلب السياسيين من ذاك النوع.

من النوع الذي يعتبر قاعدة السياسة تأليب الناس على الناس، ولا يقر ولا يعترف بأن السياسة فعل نبيل يقوم على دفع الناس نحو التآلف.

هنا عودة إلى الفلسفة الفرنسية، طالما إن إمرأة من لبنان باتت تشرف على ثقافة الفرنسيين:

في كتاب “مقالات في العلوم والفنون” يطرح الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو (1712 ـ 1778) هذا السؤال ويجيب “أنريد أن تكون الشعوب فاضلة؟ لنبدأ بتلقينها حب الوطن”، وأما إذا كانت الشعوب “لا تتمتع بالأمن، وإذا كانت أملاكها وحياتها وحريتها تحت تصرف أصحاب النفوذ والقوة ولا تستطيع الإحتكام إلى القوانين، وتعجز عن حماية نفسها، فلا يكون للفظ الوطن عندها غير دلالة بشعة أو مثيرة للسخرية”.

ومن المثير للهزؤ والتهكم، أو الإهكومة كما يذهب البُلغاء في لغة العرب، أن رجالات السياسة في لبنان قلبوا أعلى ما قاله جان جاك روسو إلى أسفله، فعاثوا فسادا في فلسفته السياسية وأهلكوا مواطنيهم، فيما إمراة لبنانية عُهد إليها إدارة مجال هو أكثر المجالات اعتزازا وافتخارا لدى الفرنسيين.

ليس أعظم من حسرة ولوعة يمكن ان تجتاحا اللبنانيين حين يقارنوا بين كيفية اختيار مبدعين لبنانيين في حكومات أجنبية، وبين كيفية اختيار الوزراء في حكومات لبنانية.. يا للهول! وكما تقول الأغنية الشعبية: سكابا يا دموع العين سكابا.

ليست ريما عبد الملك، أو “إبنة الأرز” مثلما وصفتها وسائل إعلام أجنبية عدة، استثناء في مسار الزمن اللبناني العميق الذي ينتج مبدعين ومتفوقين منذ الحقبة الفينيقية وحتى اليوم، ومنهم الفيلسوف موخوس (1200 ق. م) إبن مدينة صيدا، وهو القائل بأن المادة مؤلفة من ذرات،  وهو أول من تحدث عن الفرد والجوهر، وأن مفردة atom التي تعني “الذرة” مأخوذة من المفردة اليونانية “اتوموس” المأخوذة بدورها من المفردة الفينيقية “اتوميس” التي تعني المادة الأخيرة على ما يقول المؤرخ الإغريقي بوسيدونس، وإقليدس (300 ق. م) إبن مدينة صور، رائد علم الرياضيات والهندسة، وفورفوريوس (ت: 305 م) إبن صور ايضا والذي تشكل فلسفته الأفلوطينية أساس الفلسفتين المسيحية والإسلامية (لنا عودة إلى هذه الأسماء وغيرها في مقالات لاحقة) ولكن قد يكون من المناسب استحضار ما كانت الصحف اللبنانية تضج به من أسماء لبنانية لامعة على مستوى المعمورة خلال ثماني سنوات ممتدة بين 1964 و1972 من القرن الماضي:

ـ في الطب؛ هذه ثلاثة نماذج مختارة:

ـ أجرت صحيفة “الحياة” في 26 حزيران/يونيو 1971 حوارا مع السيدة فيلمينا مكاري والدة “قاهر السرطان” الطبيب والعالم اللبناني جاك مكاري في بلدة أنفه ـ الكورة “وراحت تنوء بسنواتها الخمس والسبعين وتتحدث عن نجلها بإعتداد الأم الفخورة”، وقالت “لم أفاجأ، فقد كتب إلي إبني قبل أيام عن مراحل كفاحه مع السرطان، وكان دائما يُطلعني على المراحل التي يصل إليها في نضاله ضد الداء الذي يفتك بالبشرية”.

ـ نشرت صحيفة “الأنوار” في الثاني عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 1972 صورة للرئيس أمين الجميل (نائب دائرة المتن آنذاك) مع الدكتور جورج حاتم اللبناني الأصل والطبيب الخاص للرئيس الصيني ماوتسي تونغ وذلك خلال زيارة الجميل للعاصمة الصينية بكين “وأبلغ الشيخ أمين الجميل الرئيس سليمان فرنجية أن الدكتور حاتم قبل الدعوة التي وجهها إليه الرئيس لزيارة لبنان”.

ـ تحدثت “الأنوار” في السابع من ايار/مايو 1972 عن الأستاذ في جامعة جورج واشنطن الأميركية الطبيب العالمي اللبناني منصور أرملي الإخصائي في طب وجراحة العيون، وحيث قلدته “جمعية خريجي الطب في الجامعة الأميركية” الوسام المذهب، وألقى رئيس الجمعية الدكتور جون ملك كلمة قال فيها إن الشهادات العلمية التي يحملها أرملي أكبر بكثير من هذا الوسام”.

ـ في الرياضة؛ هذان نموذجان:

إقرأ على موقع 180  "الإبراهيمية" أو الدين في خدمة المستعمر.. كيف النجاة؟

ـ في العشرين من أيلول/سبتمبر 1964، ذكرت صحيفة “الحياة” أن الربًاع اللبناني جود حيدر سيمثل اوستراليا في دورة طوكيو للألعاب الأولومبية، ونسبت “الحياة” إلى والدة جود التي كانت تزور أهلها في طرابلس “إن جود ولد في لبنان عام 1938 وهاجر مع والديه إلى أوستراليا في العاشرة من عمره، واختار رفع الأثقال، وأحرز بطولة أوستراليا وفاز بشرف تمثيلها هذا العام ، وأطرف ما قاله جود إلى الصحف الأوسترالية إنه يعزو قوته وتفوقه في رفع الأثقال إلى الطعام اللبناني الشعبي”.

ـ في التاسع من تموز/يوليو 1971 نشرت صحيفة “الحياة” في صفحتها الأولى ما يلي “سيُتاح للبنانيين الذين شاهدوا مباريات كأس العالم بكرة القدم في الصيف الماضي، وخصوصا المباريات النهائية بين منتخبي البرازيل وإيطاليا، مشاهدة رئيس فريق البرازيل اللبناني الأصل كارلوس البرتو في وطنه الأم، وكارلوس من نجوم فريق سانتوس الذي يلعب معه النجم العالمي بيليه، وهو من عائلة فضول في بلدة بعبدات، وله فيها عمّان، هما جميل وأنيبعل فضول، ويصل كارلوس البرتو مساء الثلاثاء القادم ـ إلى بيروت ـ مع البعثة الرياضية لنادي جبل لبنان في ساو باولو”.

ـ في السياسة؛ هذا بعض مختاراتها:

ـ أدرجت صحيفة “الحياة” في الثاني من آب/أغسطس 1971 في صفحتها الخامسة حوارا مع انطون رياشي وقدمت للحوار بهذا المدخل “يزور لبنان اليوم السيد انطوان رياشي اللبناني الأصل ومستشار المستشار الألماني السابق كورت غيورغ كيزينغر ومندوب المانيا الغربية في السوق الأوروبية المشتركة ونائب رئيس البعثة الأفريقية ـ الأسيوية التابعة للسوق، وقد تحدث السيد رياشي للحياة عن موقف لبنان من السوق الأوروبية والسوق العربية المشتركة”.

ـ حاورت صحيفة “الحياة” في السادس والعشرين من أيلول/سبتمبر 1971 الفردو بو زيد، وكتبت في مقدمة الحوار “تلبية لدعوة رسمية يزور لبنان حاليا الدكتور الفردو بو زيد وزير العدل البرازيلي، والدكتور بو زيد هو من أبرز الشخصيات القانونية والتشريعية في الأميركيتين، وكان والده أسعد بو زيد قد هاجر إلى البرازيل عام 1907 من مسقط رأسه وادي جزين”.

في ستينيات القرن المنصرم، وصل الفريدو عزيز (مدينة جزين) إلى رئاسة مجلس النواب المكسيكي، وحين اجتمع رئيس المكسيك أنريكي بينيا نيتو بنخبة الجالية اللبنانية في بلاده عام 2006، نقل عنه الموقع الألكتروني الخاص بالجالية اللبنانية jabalnamagazine (18ـ 6 ـ 2015) الذي يبث من الولايات المتحدة قوله المستند إلى سلفه أدولفو لوبيز ماتيوس لدى افتتاحه مقر “النادي اللبناني” في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 1962 “من ليس له صديق لبناني، فليسعَ إلى واحد”، وهذا ما كان ردّده وزير الخارجية المكسيكي من أصول لبنانية خوسيه انطونيو ميادي كوريبرينيا حين زار بيروت في ربيع العام 2015 وقال لصحيفة “النهار” بتاريخ 19 أيار/مايو 2015 “هناك عبارة شهيرة تدل إلى اداء اللبنانيين في المكسيك رددها رئيس الجمهورية ادولفو لوبيز ماتيوس ومفادها انه اذا لم يكن لديك صديق لبناني، فيجب ان تفتش عن واحد، وفي الحكومة (2015) هناك 7 من أصل 18 وزيرا من اصل لبناني”.

لا ضرورة للتفصيل حول رؤساء الجمهورية من أصول لبنانية في أميركا اللاتينية، والذين جاؤوا إلى مواقع الرئاسة الأولى في العقود التالية على السبعينيات المنصرمة، غير أن المرور على اسمائهم يوجز معاني الإشارة السريعة إليهم، ومن هؤلاء: يعقوب عازار، لويس ابي نادر (الدومينكان)، ماريو عبدو (البارغواي)، جميل معوض، عبدالله بوكرم (الأكوادور)، خوليو طربيه (كولومبيا) وميشال تامر (البرزايل).

جان جاك روسو: “أنريد أن تكون الشعوب فاضلة؟ لنبدأ بتلقينها حب الوطن”، وأما إذا كانت الشعوب “لا تتمتع بالأمن، وإذا كانت أملاكها وحياتها وحريتها تحت تصرف أصحاب النفوذ والقوة ولا تستطيع الإحتكام إلى القوانين، وتعجز عن حماية نفسها، فلا يكون للفظ الوطن عندها غير دلالة بشعة أو مثيرة للسخرية”

هل ينجح اللبنانيون فقط في الخارج ويفشلون في الداخل؟

لا يمكن أن تكون الإجابة صحيحة إذا انتهت إلى “نعم”، فالناجحون في الخارج أنّى جنحت عقولهم ينجحون، ولكن مع أغلب أعيان الحُكم في لبنان تتحول القوانين إلى ما يريده الأعيان، وهذا تطبيق حرفي وعملي لما كان يتوارثه الملوك الفرنسيون قبل ثورة شعبهم عليهم (1789) إذ كان الثاني منهم يرث عن الأول، والثالث يرث عن الثاني قوله “ما يريده الملك يريده القانون”.

بالعودة إلى الفلسفة، والفلسفة إحدى اهم نتاجات فرنسا، وإمراة لبنانية غدت معنية بها، يتحدث جان جاك روسو عن القوانين فيقول “حين يرى أحدهم متعة في عدم إطاعة القوانين يؤول كل شيء إلى الهلاك ويغدو من دون علاج، والقانون الأول أن نحترم القوانين”.

من يحترم القوانين في لبنان؟

ليتنا نحلم بالقوانين حتى لو كانت أحلام يقظة.

مسك الختام مع الفن؛ يقول الفنان ملحم زين في أغنيته “إسأل ع اللبناني“:

حي ع الكرامة

الرجولة والشهامة

إلنا مش إلكن لبنان

ولشعبو الزعامة

إسألوا هالكون

منبقى هون وبلدي عمراني

ما فيه قوة بتكسر قلب الشعب اللبناني.

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  لبنان ليس مفلساً.. "منظومته" في قعر الإفلاس الأخلاقي!