“لمعرفة أهمية إحياء الاتفاق النووى بالنسبة لإيران، لا نحتاج إلا إلى إلقاء نظرة سريعة على الأزمات الاقتصادية والسياسية والخارجية والأمنية والبيئية الخطيرة التى تعانى منها إيران اليوم. بدون اتفاق يرفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، حتى ولو لبضع سنوات فقط، لن تتمكن أى حكومة فى إيران من التعامل مع هذه التحديات.
على سبيل المثال، الوعود الاقتصادية الطموحة للرئيس إبراهيم رئيسى مثل بناء مليون وحدة سكنية سنويا والسيطرة على التضخم وحل المشكلات المالية للمعلمين بشكل نهائى ومعالجة أزمة انقطاع التيار الكهربائى، هذه الوعود لا يمكن تحقيقها، أو حتى تحقيق جزء منها، فى حال استمرار العقوبات الأمريكية، حتى لو قرر رئيسى الاتجاه إلى الشرق للهرب من العقوبات الأمريكية وهيمنتها.
من المؤكد أن تخفيف العقوبات وحده ليس الدواء الشافى لجميع مشاكل إيران الاقتصادية؛ فهناك عوائق أخرى أمام النمو الاقتصادى وتطبيع العلاقات التجارية مع باقى دول العالم. وعلى الجانب الآخر لا يمكن للعقوبات وحدها أن تؤدى إلى انهيار الاقتصاد؛ فإيران أظهرت فى السنوات الأخيرة أن بإمكانها تحمل العقوبات. ولكن العقوبات ما تزال عقبة أمام النمو الاقتصادى لإيران، وتبقيها فى أزمة مستمرة تمنعها من الاستثمار والتجارة والوصول إلى رأس المال؛ وهذا يعنى للمواطنين الإيرانيين استمرار التضخم وتدنى القوة الشرائية، وارتفاع البطالة، وهى عوامل أدت إلى ارتفاع نسب الهجرة وخروج موارد الدولة البشرية.
التأخير المتكرر فى إحياء الصفقة يعود بالفائدة على خصوم إيران الاستراتيجيين، فى حين أن الانهيار الكامل للمحادثات إلى جانب برنامج نووى موسع قد يخلق أرضا خصبة لزيادة التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، ويطبع فى ذهن واشنطن وحلفائها من فكرة العمليات التخريبية ضد المنشآت النووية الإيرانية، فضلا عن الاغتيالات
آثار العقوبات المدمرة لا تقتصر فقط على إفقار المواطنين، فهى متسببة أيضا فى تدهور البيئة وقطاع الطاقة؛ العقوبات زادت من التدهور البيئى من خلال تحويل رأس المال والتكنولوجيا والإرادة السياسية بعيدا عن قضايا مثل حماية البيئة والتنمية المستدامة. وبالتالى تعد إيران اليوم واحدة من أكبر المتسببين فى انبعاثات غاز ثانى أكسيد الكربون، وصنفت من قبل بعض المؤسسات الدولية كواحدة من المناطق المعرضة بشكل كبير لصراعات عنيفة بسبب ندرة المياه. فى الصيف الماضى، شهدت البلاد انقطاعا واسعا فى الكهرباء. نتيجة لذلك، أصبحت الاحتجاجات المتعلقة بنقص المياه وانقطاع التيار الكهربائى حقيقة سياسية فى إيران. وتزيد هذه الأزمات من احتمال اندلاع حرب أهلية.
قد لا تؤدى الاضطرابات المدنية المنتشرة إلى الإطاحة بالنظام الإيرانى، ولكن قد تتحد مع الديناميات الأخرى التى تفرضها العقوبات لتقويض النفوذ الإقليمى الإيرانى بشكل كبير على المدى الطويل. لا يمكن لإيران التى تعانى من أزمة مالية وحرب أهلية محتملة أن تستجيب للتغيرات السريعة فى الإقليم، ومن المرجح أن يستغل هذا خصومها ويهددونها، على الرغم من قوة إيران العسكرية. على سبيل المثال، لم تظهر إيران رد فعل قوى تجاه استيلاء طالبان على حكومة أفغانستان التى تقع فى مدى النفوذ التقليدى لإيران. حتى الدول الصغيرة، التى لا تشارك أفغانستان فى حدودها، أظهرت نفسها أكثر قدرة بكثير من إيران فى الاستفادة من الانسحاب الأمريكى. كان رد فعل طهران على استيلاء طالبان على السلطة يشبه رد فعل المتفرج القلق والمتحفظ. جيران إيران الآن من باكستان وتركيا وأذربيجان يحاولون استفزازها بإجراء تدريبات عسكرية مشتركة عبر حدودها الشمالية الغربية. حتى روسيا، التى تعتبرها إيران حليفا لها، تُظهر اللامبالاة تجاه العديد من مخاوف ورغبات إيران. لا يوجد تكاليف مرتفعة لإغضاب إيران الآن.
***
هناك بالطبع خلافات واضحة بين إيران والولايات المتحدة حول كيفية العودة إلى الامتثال الكامل للاتفاق النووى لعام 2015، المعروف رسميا باسم خطة العمل الشاملة المشتركة. على سبيل المثال، نظرا لأن الولايات المتحدة هى التى تراجعت أولا عن التزاماتها وفرضت عقوبات على إيران، تتوقع طهران تخفيف العقوبات قبل أن تتحرك نحو الامتثال. مصدر قلق آخر لإيران هو أنه حتى لو أبرمت صفقة إحياء مع إدارة بايدن، فإن الرئيس الأمريكى المقبل يمكن أن يسىء إلى الاتفاق، وفى غضون ثلاث سنوات، ينهار فعلا الاقتصاد الإيرانى، بغض النظر عن التزام إيران بالاتفاق.
لكن هذا الاحتمال وتداعياته طويلة المدى على الاقتصاد الإيرانى لا ينبغى أن تعمى طهران عن الفوائد قصيرة المدى لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، والتى يمكن أن تساعد إيران على المدى الطويل فى مكافحة أى عقوبات مستقبلية قد تفرضها إدارات قادمة. إذا تمت استعادة الاتفاق بالكامل خلال محادثات فيينا، فسيكون هناك ما لا يقل عن ثلاث سنوات قبل نهاية رئاسة جو بايدن، وعندها سيكون أمام إيران ثلاث سنوات على الأقل للمضى قدما نحو الاندماج فى النظام المالى والاقتصادى العالمى.
***
جيران إيران الآن من باكستان وتركيا وأذربيجان يحاولون استفزازها بإجراء تدريبات عسكرية مشتركة عبر حدودها الشمالية الغربية. حتى روسيا، التى تعتبرها إيران حليفا لها، تُظهر اللامبالاة تجاه العديد من مخاوف ورغبات إيران
من المرجح أن يؤدى الانهيار التام للمحادثات النووية إلى قلب الموازين فى اتجاه يضر الجميع، وطهران بشكل خاص. وهذا يرجع إلى:
أولاً، على الرغم من أن إدارة الرئيس الإيرانى السابق حسن روحانى والقوى العالمية قد اتفقت فى حزيران/يونيو على إطار عمل لإحياء الاتفاق بعد ست جولات مطولة من المحادثات المكثفة، بحلول الوقت الذى عادت فيه إيران إلى محادثات فيينا مع الفريق المفاوض الجديد فى حكومة رئيسى، كان أكثر من خمسة أشهر طويلة قد انقضت. وقد تفاقم هذا التأخير بسبب الرسائل المربكة من الجهاز الدبلوماسى الإيرانى خلال هذه الفترة.
ثانياً، بعد عودته المتأخرة إلى فيينا، طرح فريق التفاوض الجديد سلسلة من المقترحات الجديدة التى، رغم أنها عادلة تماما، لم تكن مجدية سياسيا وتتعارض مع الإجماع الدبلوماسى الذى تم التوصل إليه فى حزيران/يونيو.
ثالثاً، تكثف إيران أنشطتها النووية ولم تكن متعاونة بشكل كامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتى قللت بدورها من احتمالية الرجوع إلى الاتفاق، وبالتالى عدم الرجوع إلى المحادثات. أثارت هذه التطورات ارتباكا حول نوايا طهران وحزمها على العودة إلى الصفقة، مما أظهر إيران ــ بدلا من الولايات المتحدة ــ بمظهر المتمرد صعب الإرضاء.
تحت هذا الإطار، إذا لم تصل المحادثات إلى نتيجة، سيكون سهلا على الولايات المتحدة (الجانية) تصوير إيران (الضحية) على أنها المتسببة فى هذا المأزق. سيؤدى هذا بدوره على الأرجح إلى تقريب الولايات المتحدة من الهدف الوحيد الذى فشلت فى تحقيقه حتى الآن: تجنيد الأطراف الأخرى فى خطة العمل الشاملة المشتركة فى تطويق إيران الاقتصادى والدبلوماسى من خلال مجموعة كبيرة من عقوبات الاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة. وقد تستغل إدارة بايدن ذلك لعقد اجتماع طارئ لمجلس إدارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية والذى يمكن أن يكون بمثابة نقطة انطلاق لمزيد من عزل إيران بمساعدة مجموعة أوسع من الدول.
الاستعادة الكاملة للاتفاق النووى لن يحول إيران بشكل تلقائى إلى قوة إقليمية عظمى قادرة على الهيمنة على الإقليم كما يزعم بعض القادة الإسرائيليين. ومع ذلك، فقد يجعل حلفاء الولايات المتحدة فى المنطقة يعيدون النظر فى أمنهم القومى. قد يكون أيضا بمثابة نقطة انطلاق دبلوماسية يمكن من خلالها لإيران والولايات المتحدة التعاون وإدارة الخلافات حول قضايا أخرى معلقة. فى الواقع، وسط الأزمة النووية الحالية، نسينا أنه أكثر من مرة تحالفت إيران والولايات المتحدة عسكريا بفعالية ضد كل من طالبان وداعش.
التأخير المتكرر فى إحياء الصفقة يعود بالفائدة على خصوم إيران الاستراتيجيين، فى حين أن الانهيار الكامل للمحادثات إلى جانب برنامج نووى موسع قد يخلق أرضا خصبة لزيادة التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، ويطبع فى ذهن واشنطن وحلفائها من فكرة العمليات التخريبية ضد المنشآت النووية الإيرانية، فضلا عن الاغتيالات. وستتضاءل هذه السيناريوهات مع التآكل البطىء للقوة الإيرانية تحت العقوبات الأمريكية”.
(*) يُنشر بالعربية بالتزامن مع “الشروق“؛ النص الأصلي بالإنكليزية على موقع “فورين أفيرز“