عندما يكون الاقتصاد في أي بلد على ما يرام، يميل الناخبون إلى مكافأة السلطة التنفيذية، والعكس صحيح، فعندما يكون الاقتصاد سيئًا، يميل الناخبون إلى معاقبة الحكومة بدعم معارضيها، لكن في الحالة اللبنانية قد لا يكون العامل الاقتصادي هو المؤثر الوحيد. يشرح الأستاذ المتخصص في علم الاجتماع والباحث في القضايا الاقليمية د. طلال عتريسي هذا الواقع بقوله “خلال الأزمات الاقتصادية عادة ما تأتي أحزاب معارضة فتقدم مشاريع وخططًا وتحاسب المسؤولين عن الانهيار وبالتالي تذهب أصوات الناخبين لهذه المعارضة، لكن الحالة اللبنانية مختلفة لسببين؛ أولهما، أنّه لم تُحدَّد الجهات المسؤولة عن الأزمة الإقتصادية حتى تذهب الناس إلى الجهات البديلة؛ وثانيهما، أنّ المجموعات الجديدة لم تقدم رؤية اقتصادية واضحة للتعافي وبالتالي من غير المعلوم اي عوامل ستلعب دورًا في التصويت، هل ستكون عوامل ترتبط بالتهديد الوجودي وبالتالي عودة الناس إلى الاصطفافات المذهبية، أم سيكون هناك تراجع لنسبة التصويت بسبب عدم اقتناع الناس بالقوى السياسية الحالية وبالبدائل المطروحة وهذا قد يختلف بين منطقة وأخرى أو طائفة وأخرى”.
لطالما عملت المنظومة الحاكمة على قضيتين لا ثالث لهما: الخوف والحاجة. هما وسيلة جعل زعماء البلد الطائفيين يُمسكون بنصاب طوائفهم. الحاجة تجعل الناس مضطرة لمد يدها طلباً للمساعدة.. والخوف يُهدِّد وجود الفرد في دولة تفرز المواطنين حسب انتماءاتهم الدينية والمذهبية والسياسية. في هذا السياق، تقول رشا عز الدين من مدينة صور: “في 2018 انتخبت بدافع الخوف من الآخر، التصريحات الطائفية دفعتني لانتخب من يُقدّم نفسه المُنقذ والمخلّص والحامي لكن لا يمكن العيش لا بالتاريخ ولا بالمخاوف. يجب أن ننظر إلى المستقبل بمعزل عن أزمات الماضي”، يردّ زوجها حيّان الذي يضطر للذهاب الى بيروت يومياً بدافع العمل: “الانتخابات لن تغير شيئًا، للأسف الانقسام بين اللبنانين والتخويف من الآخر يزداد والانتخابات هي لتحديد الأوزان السياسية وليس للبحث عن حلول للأزمة، انا لن انتخب، لأن الورقة البيضاء تزيد الحاصل الانتخابي لأحزاب المنظومة”.
عتريسي:”لا يمكن ربط المساعدات بشراء الصوت الانتخابي لأن المساعدات هي البديل الوحيد للخدمات الرسمية المتعثرة والضعيفة. نعم قد تستغل بعض الأحزاب هذه الممارسات لغايات انتخابية وهذا يختلف حسب القوى وارتباطها بقضايا الناس وعلى الأرجح ان تقديم المساعدات سيستمر لفترة أطول بانتظار ان يكون هناك افق حكومي رسمي للمعالجات الاقتصادية”
الانهيار الاقتصادي وترك الناس لمصيرها بالاضافة الى عجز الاحزاب عن تقديم حلول ناجعة “وضعا المواطن الجنوبي امام خيارين احلاهما مرّ”، كما تقول زينة من بلدة زوطر في جنوب لبنان، وتضيف “أولا بتُّ لا أؤمن بهذه المنظومة التي برهنت فشلها الذريع وبالتالي لن أعطيهم صوتي الانتخابي وثانيًا أجد نفسي محتارة أمام مرشحي الجنوب الذين يمثلون المقاومة وأخاف اذا كان التصويت ضدّهم سيؤذي المقاومة وفي الوقت نفسه أفكر بطفلتي التي حرمت من حقها في حياة كريمة وزوجي الذي خسر عمله بسببهم”.
ليس من السهل فهم الواقع السياسي اللبناني لارتباط العوامل الداخلية بعوامل اقليمية ولاختلاف الأطراف السياسية الوازنة على وضع تصور مشترك يُعلِي منطق الدولة والقانون على حساب العنتريات المذهبية. ترفض روضة الحسن التصويت في ظل القانون الانتخابي الحالي “لا يمكن تصحيح المسار الإنتخابي إلا من خلال الغاء القيد الطائفي وجعل لبنان دائرة واحدة مع عدد نواب أقل”، وهذا ما يؤكد عليه الاستاذ في كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية د. مصطفى شامية:”القانون الانتخابي النسبي مفصّل بطريقة مذهبية لصالح الأحزاب، ولكن هناك نخب مثقفة وواعية بدأت تدرك مسار التغيير حتى لو تطلب وقتا اطول”.
تقول لينا من مدينة بيروت “سأنتخب أي مرشح مستقل ضد الطبقة السياسية، لأن الانتخابات هي الوسيلة الديمقراطية الوحيدة للمحاسبة وحتى لو أنّ المستقلين لم ينجحوا في الحصول على أغلبية المقاعد النيابية لكن يكفي وصول واحد لكسر الاحتكار الطائفي للمثيل”. تعارضها بسمة مؤكدة رفضها المشاركة في ظل القانون الحالي لأن “أحزاب السلطة تعتبرُنا أرقاماً ونسباً مئوية”، وهذا ما يؤكده الباحث الأب صلاح أبو جودة اليسوعي عندما درس هوية لبنان الوطنية، معتبراً “أنّ التوزيع الطائفي أدى إلى تعزيز واقع طالما طبع مجتمع لبنان السياسي وهو ولاء الموظفين الشخصي لأصحاب النفوذ، اي المُفضِلين عليهم بالوظيفة أكثر من ولائهم لمتطلبات الوظيفة العامة نفسها التي تهدف إلى خدمة الخير العام”[1].
لكنّ انخفاض قيمة رواتب موظفي القطاع العام إلى ما دون الخمسين دولارًا شهريًا من شأنه أن يُعدّل نمط علاقة الموظف بالزعيم الذي قدم لهم هذه الوظيفة، يقول سامي العيد “الأحزاب بطل خبزها يطعمي، فقدت قيمة تعويضي في البنك، ولا مساءلة ولا محاكمة، راتبي لا يكفي بدل اشتراك كهربائي وحياتنا انقلبت رأسا على عقب، أنا ابحث عن أقرب فرصة للهجرة”. تؤكد سميّة الحلو من بيت مري هذا الواقع “كلهم حرامية، ما رح انتخب، وعدونا بمساعدات وبالآخر كل حزب ساعد أتباعه، صار في تمييز كبير داخل المجتمع الواحد حسب الانتماء والخط السياسي”.
يقول أبو فادي “يلي جرب المجرب بيكون عقلو مخرب، ما عم فكر أبداً بالانتخابات، صرنا لاجئين بهالبلد عم نشحذ اللقمة بعرق جبينّا”، يضيف سائق الأجرة “هالبلد متل المزرعة، ونحن متل ولاد الشوارع عم نحاول نلاقي مكان يحمينا من كلاب الزمن يلي وصلونا لهون”.
يعوّل الدكتور مصطفى شامية على دور النخب المثقفة واساتذة الجامعات ووسائل الإعلام للتصويب على خطورة المساعدات التي يعتبرها رشىً مبطنة، مؤكدا أنّ بعض المواطنين قد يقبلون المساعدات نظرا لوضع حرج يواجهونه وبالتالي يمكن ان تَحلّ هذه المبالغ بعض أزماتهم، لكن لا يمكن تعميم قاعدة شراء اصوات الناخبين بسبب الانهيار الاقتصادي لأن الشعب اللبناني اصبح مدركا حقوقه وخصوصا الجيل الجديد.
وفيما يتغلغل وجود الاحزاب في النسيج الاجتماعي في ظل غياب دور الدولة الرعائي، فيُمهّد الطريق أمام كل الجهات النافذة لاستقطاب الناخبين. لنأخذ أمثلة توزيع المازوت في المناطق الجبلية الباردة او تقديم الدواء لبعض مرضى السرطان او تقديم صناديق الاعاشة للعائلات الفقيرة، هذه وغيرها تُفسّر مستوى الفقر والعوز الذي بلغه المجتمع اللبناني الأمر الذي يدفع بالمواطن الى بيع صوته بسبب الحاجة، ما يؤكد ضرورة تحرير المواطن من ازماته المعيشية التي تلقي بثقلھا على قراره أولًا حتى لا يصبح ما هو حق للمواطن فضلا ومِنّةً من الأحزاب تُشكر عليه في صناديق الإقتراع. هذا الإستنتاج لا يوافق عليه خالد إبن مدينة صيدا. لماذا؟ “من ساعدني في الظروف الصعبة أقل الوفاء أن اعطيه صوتي وثقتي”.
شامية “لا يمكن التصويت بالدوافع التقليدية كالخوف على الوجود او المال لأن الأزمة الحالية منقسمة إلى شقين سياسي واقتصادي واذا ما قدمت مجموعات المجتمع المدني برامج تعالج بوضوح الأزمة وتبحث عن دعم خارجي لبلد لا يستطيع ان يؤمن الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي لن يستطيع البلد النهوض من جديد”
يقول د. طلال عتريسي:”لا يمكن ربط المساعدات بشراء الصوت الانتخابي لأن المساعدات هي البديل الوحيد للخدمات الرسمية المتعثرة والضعيفة. نعم قد تستغل بعض الأحزاب هذه الممارسات لغايات انتخابية وهذا يختلف حسب القوى وارتباطها بقضايا الناس وعلى الأرجح ان تقديم المساعدات سيستمر لفترة أطول بانتظار ان يكون هناك افق حكومي رسمي للمعالجات الاقتصادية وبالتالي لا حل مؤقتاً الا المساعدات التي تقدمها الأحزاب”.
في مقابل التبعية العمياء للزعيم، استطاعت ثورة تشرين ان تغيّر في الوعي الحقوقي لدى بعض الفئات خصوصًا ان اللبنانيين اعتادوا البحث عن حلول فردية لمشاكلهم وعدم مساءلة الدولة بشكل جماعي عن التقصير اللاحق بهم ولكن الأوضاع الراهنة فرضت معايير جديدة لاعطاء الناخبين ثقتهم ومنها محاكمة جميع المساهمين في وصولهم إلى الجحيم الذي وصل إليه الشعب اللبناني وإعادة الأموال المنهوبة والقضاء على الفساد. وتقول كريستينا خوري “أمراء الحروب الذين حكمونا ساهموا بقتل الشعب بشكل جماعي وقد حان الوقت لمحاكمتهم بشكل جماعي واعطاء فرص للأحزاب الجديدة”، وهذا ما يؤكده استاذ الحقوق مصطفى شامية “لا يمكن التصويت بالدوافع التقليدية كالخوف على الوجود او المال لأن الأزمة الحالية منقسمة إلى شقين سياسي واقتصادي واذا ما قدمت مجموعات المجتمع المدني برامج تعالج بوضوح الأزمة وتبحث عن دعم خارجي لبلد لا يستطيع ان يؤمن الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي لن يستطيع البلد النهوض من جديد”.
تمارس جويل من عمشيت في بلاد جبيل حياتها الطبيعية محاولة حل مشاكلها واحدة تلو الأخرى، ترفض المشاركة في العملية السياسية، معتبرة أن لبنان لن يتغير، ولبنان لم يكن يوما دولة، اللبنانيون أفراد ضمن كيانات أُسِّست بمعزل عن إرادتهم. تقول:”ولا مرة كان في استفتاء شعبي، ولا مرة كان في احصاء لعدد السكان، ولا مرة كان في مساواة، حتى مجلس الخدمة يلي كان نافذة للعبور بكفاءة نحو وظائف الدولة تم تعطيله، الانتخابات كذبة ديموقراطية، يتساوى فيها تأثير الجاهل والمتعلم وتأثير المتعصّب والمنفتح”، تسأل جويل التي درست الفلسفة:”مَن مِن الناس يفهم تفاصيل القانون الانتخابي الجديد، مَن مِن المواطنين ينتخب على اساس برنامج يسمح بالمساءلة لاحقًا.. لا أحد”.
مجدداً هما قضيتان: الخوف ومن ضمنه التخويف من الآخر.. وصولاً إلى إعادة طرح مشاريع سياسية للبنان كان إعتقد الكثيرون أنها صارت وراء ظهرهم مثل الفدرالية. أما القضية الثانية، فهي جعل اللبنانيين مجرد متسولين على قارعة الزعماء.
كيف يمكن أن يتحرر اللبنانيون من الخوف والحاجة؟ “بالدولة الموحدة القوية والعادلة”، يقول د. نبيل خوري.
[1] صلاح أبو جودة اليسوعي، هوية لبنان الوطنية نشأتها وإشكالياتها الطائفية، دار المشرق بيروت، طبعة أولى 2008. ص 68