

لطالما كان لبنان وسوريا ينظران إلى بعضهما البعض بعين الريبة. وما زالا على هذا النحو حتى الآنَ. وقع الخلاف الكبير حول الهويّة والدور منذ الساعات الأولى لإعلان الجنرال غورو. سلطاتُ ما بعد الاستعمار الفرنسي الموصوفةُ بـِ“حكوماتِ الاستقلالِ” تصرَّفت على قاعدة أنَّ هوية لبنان ليست عربية. ودفعتها الريبة إلى أن تنطلق نحو دورٍ في المنطقة يُكرِّسُ روحيَّةَ سايكس – بيكو التقسيميَّة التصادُميَّة لا نتائجه السياسية فحسب. واستبطنت سلطاتُ “الاستقلال” حساباتٍ طائفيةً تسبَّبَتْ لاحقاً بتفجير لبنانَ داخلياً قبل التدخّلات الخارجية. وسوريا، بالمقابل، لم تُقِمْ وزناً حقيقياً للتغييرات الجيوسياسية القسرية بعد 1920. وبدلاً من اتباعِ سياسةِ الاحتضان تجاه لبنان، للقضاءِ على مُناخ الريبة والروح التقسيميّة نزَعَتْ إلى سياسةِ الاستتباع. وهكذا وقع الطرفان في فخِّ ازدواجية الشعار السياسي المراوغ: أخوَّة في الظاهر وريبةٌ عدائيّة في الباطن.
ذاكرة اللبنانيين والسوريين مثقلةٌ بالشكوك . لم يستطع اللقاء اليتيم بين الرئيس اللبناني الراحل فؤاد شهاب والرئيس الراحل جمال عبد الناصر (في عهد الوحدة عام 1958) في خيمة على الحدود اللبنانية أن يزيل هذه الشكوك، لأنَّ الخطوات السياسية التي أعقبت إسقاط الوحدة بسنواتٍ قليلة لم تُلبِّ هذا الهدف. جاء حكمُ البعث وتبتَّى أسلوب الاستتباع تحت الشعار القومي العربي. أراد تحت هذا الشعار أن يكون لبنان في يده. وتنقَّل في اصطناع الولاءات من اليسار إلى اليمين، ولعب بين الشرق والغرب، فاصطدم بقوى الداخل اللبناني يميناً ويساراً، ووقع في طامَّة الصراعات الدولية، فمهَّد بذلك إلى خسارة سوريا، بينما كان من الممكن أن يفهم الواقع السياسي الجديد فيتعامل مع لبنان على قاعدة بناء الثقة بدلاً من الاستتباع الذي بلغَ حدَّ الوصاية.
إذاً إنها زيارة بلا أفقٍ. كان يمكن لرئيس الحكومة والعهد رسْمُ إستراتيجية مدروسة جداً. وكان يمكن تأجيل هذه الزيارة إلى وقت يستقرُّ فيه مسار سوريا ولبنان على نمط واضح بدلاً من تضييع الوقت الذي كان يجبُ أن يُصرفَ لمعالجة الأزْمة الوطنية – السياسية في الداخل
أمام هذه الذاكرة كيف يُمكن بناء العلاقات اللبنانية السورية من جديد؟ وهل هناك عوامل مساعدة ولا سيَّما أنَّ سوريا اليوم تسيطر عليها قوى متشدِّدة من الإسلام السياسي، موزَّعة الولاءات والمراهنات بين تركيا والولايات المتحدة وإسرائيل وعدد من دول الخليج؟ ولا يخفى على المتابعين أنَّ هذه القوى لا تحترم فكرة الوطن والدولة. ولا تُقيم حساباً للمعايير القومية والوطنية، بل هي في أيِّ لحظة قد ترى في إسرائيل كياناً طبيعياً في المنطقة تعطيها الحق في التصرُّف كما تشاء ولو حساب وحدة الأرض والناس والمستقبل.
لقد ذهب رئيس الحكومة اللبنانية نوَّاف سلام إلى دمشق على رأس وفدٍ وزاري. حملَ معه ملفاتٍ انتهت مناقشتها بتأليفِ لجانٍ للمتابعة. وما أدراكم ما لجانُ المتابعة!. أثبتتْ كلُّ التجاربِ السابقة فشلها الذريع إلا في تضييع الوقت والناس فقد نجحت فيهما بامتيازٍ أدَّى إلى خرابٍ تلوَ خرابٍ. ليس عيباً أن نقول لرئيس الحكومة إنَّ هذه الزيارة لن تؤتي ثماراً، وذلك للأسباب الآتية:
أوَّلاً؛ ليس لدى السلطة اللبنانية الجديدة رؤية إستراتيجية واضحة ودقيقة حول بناء علاقات لبنان مع سوريا أو غيرها في ظلِّ التحوُّلات الهائلة المأساويّة التي تشهدها المنطقة. ويستحيل تكوين هذه الرؤية من دون إستراتيجية داخلية تحمي الوحدة الوطنية بالحوار وإعادة البحث عن الجوامع المشتركة التي تُجنِّبُ لبنان التقسيمَ وتصدُّعَ الهُوية. أين هي هذه الخلفية الفكريَّة والإستراتيجيّة في ثنايا الزيارة إلى دمشق؟ إنَّها غير موجودة، ولذا فإنَّ الزيارة تلبِّي حاجةً للحراكِ السياسي التكتيكي ينسجم مع الموقف الأميركي والسعودي لا أكثر ولا أقلَّ. وما تكونُ عليه اللجانُ الوزاريّةُ التي تشكَّلتِ اليوم لن يكون غداً، فالوقت طويل قبل أن تحطَّ المنطقة رحالَـَها في موطىءٍ ما.
ثانياً؛ لا تكفي أن تكون في لبنان وسوريا سلطتان جديدتان، فالجِدَّةُ لا معنى لها ما لم تقدِّمْ شيئاً نوعياً فعلياً فأين حصل ذلك؟ مَنْ يُعْرَفُ بالرئيس الانتقالي في سوريا أحمد الشرع لم يخرج حتى هذه اللحظة من كونه وكيلاً تركياً، ومتشدِّدأ إسلامياً، ومرتكِزاً على دعم أميركي مرهونٍ مستقبلياً بخارطة تقاسم سوريا، وساكتاً “لطيفاً” عن الاحتلال الإسرائيلي لجنوب سوريا، ومتنصِّلاً من المسؤولية عنِ الارتكاباتِ الدمويّة التي وقعت في الساحل الشمالي السوري تحت عنوان أنَّها ممارسات فردية حيناً ولجنة تحقيقٍ حيناً آخر، فكيف سيتعاطى رئيسُ الحكومةِ معَ هذا الخليط؟
ثالثاً؛ إنَّ سوريا نفسَها غيرُ مستقرة، بل إنَّ خطوات تقسيمها وتقاسمها متسارعة ما لم تحدُثْ معجزةٌ توقفها، فكيف تستطيع أنْ تقدِّمَ التزامات وتفي بها؟ إنَّ عقدة المستقبل تحكم البلدين أمام خطر أنْ يُصبِحا بُلدانا تحت عنوان فيدراليٍّ أو كونفيدرالي أو صيغة أخرى يخترعُها الغرب الأميركي-الإسرائيلي.
إذاً إنها زيارة بلا أفقٍ. كان يمكن لرئيس الحكومة والعهد رسْمُ إستراتيجية مدروسة جداً. وكان يمكن تأجيل هذه الزيارة إلى وقت يستقرُّ فيه مسار سوريا ولبنان على نمط واضح بدلاً من تضييع الوقت الذي كان يجبُ أن يُصرفَ لمعالجة الأزْمة الوطنية – السياسية في الداخل. ولا شكَّ في أنَّ العقلانية تقضي بإقامة علاقات سليمة بين البلدين، لكنَّها تقضي أيضاً بعدم الاستعجال، وبالالتفاتِ الدقيق إلى الداخل كي يستقيم رسْمُ العلاقات مع الخارج حتى لو كان قريباً مثل سوريا.