أتت عملية الجيش الأميركي بعد أيام من تنفيذ تنظيم “داعش” عمليتين كبيرتين في سجن غويران بالحسكة وفي ديالى بالعراق. فهل ثمة من رابط بين الصعود الجديد لـ”داعش” وتصفية القرشي؟ وماذا عن الإعلان الأميركي – العراقي في كانون الأول/ديسمبر الماضي عن إنتهاء المهمات القتالية للجنود الأميركيين في العراق في إطار التحالف الدولي لمقاتلة التنظيم وتحولهم إلى مهام التدريب؟
وعلى رغم أهمية العملية الأميركية، فإن التجارب تدل على أن إغتيال قادة التنظيمات الجهادية لا يكفي وحده لإجتثاث نفوذها على الأرض.
***
لم يمض وقت طويل على إغتيال زعيم “داعش” أبو بكر البغدادي في العام 2019، حتى تمكن التنظيم من إعادة هيكلة قياداته وتجميع عناصره وتنويم خلاياه، ومن ثم عاد ليخوض حرب إستنزاف ضد الجيشين السوري والعراقي على جانبي الحدود بين سوريا والعراق. لا بل توسع نفوذ التنظيم المتطرف في مناطق أخرى من العالم، لا سيما في أفغانستان خلال وجود القوات الأميركية وبعد إنسحابها. وهو ينفذ الآن تفجيرات وهجمات في ظل الحكم الثاني لحركة طالبان. ويقاتل “داعش” اليوم في دول منطقة الساحل في غرب أفريقيا، وخصوصاً في مالي والنيجر وبوركينا فاسو. وينفذ هجمات في نيجيريا وموزامبيق وغانا وساحل العاج، وعاد للظهور في ليبيا، بينما لا يزال متمترساً في شمال سيناء بمصر.
أمام ثقل الملفات والتحديات التي تواجه بايدن وفريقه، فإن مفعول تصفية القرشي قد يكون معرضاً للتلاشي بسرعة، على رغم أن في إمكانه القول للأميركيين إنه لا يقل عن ترامب الذي تمكن من قتل البغدادي، ولا أقل من أوباما الذي قتل بن لادن، ولا أقل من جورج دبليو بوش الذي قتل الزرقاوي
لكن العلامة الفارقة، كانت إقتحام سجن غويران في الحسكة الواقعة تحت سيطرة ما يعرف بـ”قوات سوريا الديموقرطية” (قسد)، التي يشكل المقاتلون الأكراد عمودها الفقري. فهذه كانت الحدث الابرز منذ زوال “خلافة” البغدادي عام 2018، ودلّت على أن التنظيم قد إستعاد القدرة على تنفيذ عمليات بهذا الحجم وعلى الوصول إلى قلب المدن. وبالفعل تمكن التنظيم من تأمين الفرار للمئات من عناصره المسجونين وقتل ما يقارب المائة من “قوات سوريا الديموقراطية” في معركة إستمرت نحو أسبوع وتكبّد خلالها المقاتلون الأكراد نحو مائة قتيل على رغم الدعم الذي تلقوه من القوات الاميركية في سوريا.
كان ذلك مؤشراً خطيراً بينما زعيم التنظيم يختبيء في بلدة أطمة التي تقع في منطقة تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام” أو ما كان يعرف بـ”جبهة النصرة” وعلى مسافة 24 كيلومتراً فقط من الحدود التركية ـ السورية.
وللتذكير فقط، فإن البغدادي تمت تصفيته عام 2019 في محافظة إدلب بمنطقة قريبة أيضاً من الحدود التركية. هل تلك محض صدفة أن يختبيء البغدادي والقرشي قريباً من الحدود التركية؟ ذلك سؤال مشروع.
وعلى غرار ما اعتبر الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب أن إغتيال البغدادي بمثابة إنجاز لإدارته قبل عام من الإنتخابات الرئاسية، أتت عملية إغتيال القرشي قبل أشهر فقط من الإنتخابات النصفية، وفي وقت وصلت فيه شعبية بايدن إلى مستويات تؤشر إلى أن الجمهوريين في طريقهم للسيطرة على مجلسي الكونغرس، وشل قدرة الرئيس الديموقراطي على إتخاذ القرارات في العامين المقبلين حتى يحين موعد الإنتخابات الرئاسية التي سيخوضها ترامب مجدداً.
وأتى إغتيال القرشي في وقت تحاصر الأزمات الدولية إدارة بايدن، من أوكرانيا والحشد الروسي على حدودها، إلى تايوان التي تعيش أيضاً هاجس غزو من البر الصيني بين يوم وآخر، إلى كوريا الشمالية وتجاربها الصاروخية شبه اليومية، إلى المراوحة في المفاوضات النووية غير المحسومة مع إيران في فيينا، إلى حرب اليمن المتصاعدة، إلى “متلازمة هافانا” الغامضة التي تصيب الديبلوماسيين الأميركيين في أكثر من سفارة بالعالم بالغثيان والدوار، إلى الهجمات السيبرانية المتكررة داخل وكالات أميركية.
“الحرب على الإرهاب” التي أعلنتها الولايات المتحدة بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، هي نوع من “الحروب الأبدية” بينما العالم ويا للأسف ليس أكثر أماناً
وفي السياق نفسه، ما يزال الإنسحاب “الفوضوي” من افغانستان يطارد بايدن، بينما الأدهى من كل الصعوبات التي يواجهها خارجياً، هو التضخم في الداخل الأميركي وإرتفاع أسعار الوقود. ولا تزال خطط الرئيس لتجديد البنى التحتية الأميركية تواجه العثرات في الكونغرس الأميركي، وحتى من مشرعين ينتمون إلى الحزب الديموقراطي. كما أن وباء كورونا لا يزال يرهق المستشفيات والأطقم الطبية في الكثير من المدن الأميركية إلى درجة فرضت على بايدن الإستعانة بالجيش.
في هذه المناخات السلبية والمقلقة، أتت تصفية القرشي بمثابة “جرعة تعزيزية” لرفع شعبية بايدن على أبواب إستحقاق الإنتخابات النصفية، التي ستُحدّد إتجاهات السياسة الداخلية في الولايات المتحدة.
ونجح الجمهوريون في الأشهر الأخيرة في تصوير بايدن على أنه رجل ضعيف أمام المخاطر التي تحدق بأميركا، وخصوصاً من قبل روسيا والصين. وهم يطالبونه بفرض عقوبات إسستباقية على روسيا، سواء حصل الغزو لأوكرانيا أم لم يحصل، وكذلك بإرسال قوات أميركية إلى أوكرانيا نفسها كرسالة ردع لا تحمل اللبس حيال الكرملين.
ويبقى أنه أمام ثقل الملفات والتحديات التي تواجه بايدن وفريقه، فإن مفعول تصفية القرشي قد يكون معرضاً للتلاشي بسرعة، على رغم أن في إمكانه القول للأميركيين إنه لا يقل عن ترامب الذي تمكن من قتل البغدادي، ولا أقل من باراك أوباما الذي قتل أسامة بن لادن، ولا أقل من جورج دبليو بوش الذي قتل أبو مصعب الزرقاوي.
وفي كل مرة تنجح أميركا في قتل قادة من الصف الأول أو الثاني في “القاعدة” و”داعش”، يخرج المسؤولون الأميركيون ليقولوا إن “العالم بات أكثر أماناً”. لكن واقع الأمر ليس كذلك، ويبدو أن “الحرب على الإرهاب” التي أعلنتها الولايات المتحدة بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، هي نوع من “الحروب الأبدية” بينما العالم ويا للأسف ليس أكثر أماناً.