يستهل رونين بيرغمان هذا الفصل بالقول “عند الساعة العاشرة صباحاً، بدأ امام بلدة جبشيت يدعو الناس للحضور الى حسينية البلدة (…). على مدى سبع سنوات كان النداء يصل عبر مكبرات الصوت المنصوبة فوق مآذن الجامع في السادس عشر من فبراير/ شباط من كل عام، يوم ذكرى إغتيال الشيخ راغب حرب في العام 1984، أول القادة الروحيين لحزب الله في جنوب لبنان، وبهذا الاغتيال فقد خلقت “اسرائيل” من حيث لا تدري شهيداً وبات قادة حزب الله وسياسيوه يحجون سنوياً الى ضريحه قبل ان يتجهوا الى مهرجان جماهيري لاحياء الذكرى. وعند الساعة العاشرة والنصف بات الشارع الرئيسي للبلدة مكتظاً بالنساء والرجال، كلهم تركوا ما كانوا يفعلونه واقفلوا منازلهم ومحالهم ومكاتبهم ليشقوا طريقهم الى الحسينية. كانوا يتحركون ببطء خلف سيارتين رباعيتي الدفع إحداهما رمادية والثانية سوداء اللون، تبدوان تابعتين لجهاز المرافقة الامنية لحزب الله. وعلى ارتفاع 9500 قدم (حوالي 2900 متر) فوق شوارع جبشيت، كانت كاميرا منصوبة عند رأس طائرة صغيرة تطير بصمت وتمسح المنطقة بطولها وعرضها من دون اي طيار بداخلها. كان هناك مشغلٌ يتولى توجيهها من مقطورة على الحدود الشمالية لـ”اسرائيل”، وكانت الصور التي ترسلها الكاميرا ذات دقة عالية وبالتوقيت الحقيقي يتم بثها إلى شاشة في غرفة حرب صغيرة تابعة لجهاز “أمان” تطل على حديقة زهور خارج مقر وزارة الدفاع في تل ابيب. كان ذلك في العام 1992، تكنولوجيا استخبارية عجيبة: مُسيرة تجعل العيون “الاسرائيلية” تراقب الهدف من دون المخاطرة بأي عنصر بشري “اسرائيلي”. كانت الكاميرا تتابع الموكب في جبشيت. في آخره كانت هناك اربع آليات مرئية بوضوح: اثنتان منهم من طراز رانج روفر والاثنتان الاخريتان من طراز مرسيدس الفاخرة، وكان ضباط المخابرات في تل ابيب يراقبون السيارات الاربع وهي تبتعد ببطء عن الحشد عابرة الحسينية للتوقف في مرآب خلف المبنى”.
في العام 1982 أصبحت المُسيرات عنصرا اساسيا في ايصال المعلومات الى كبار ضباط سلاح الجو الجالسين في موقع “كناري” تحت الارض في وسط تل ابيب، كما لعبت دورا اساسيا في تدمير بطاريات الصواريخ السورية المضادة للطائرات في سهل البقاع في لبنان
ينقل بيرغمان هنا عن أحد المحللين الذين كانوا يراقبون صور الفيديو قوله “لقد نلنا منه”، فعلى بعد مائتي ميل (حوالي 320 كيلومتراً) كان عملاء الاستخبارات يملكون رؤية واضحة للهدف، ويتابع المحلل “فجأة عبقت رائحة الصيد في هواء الغرفة”.
ينتقل بيرغمان فجأة للحديث عن تاريخ ادخال المُسيرات الى سلاح الجو “الاسرائيلي” وكيفية تطويرها، فيقول: “منذ “حرب الغفران” التي أُخذ فيها “الاسرائيليون” على حين غرة، كان قائد سلاح الجو “الاسرائيلي” اللواء بنيامين بيليد الملقب “بني” مسكوناً بالفشل، ففي بداية حرب عام 1973 كان سلاح الجو يتلقى اكثر من نصف موازنة الدفاع، ومع ذلك انهار كلياً مع الساعات الاولى للهجوم المصري ـ السوري. وكان بيليد يعتقد ان السبب الرئيسي للفشل هو ان المعلومات الاستخبارية المهمة وصلت متأخرة، فلو كان يعلم ان القوات المصرية تستعد لشن الهجوم لكانت قواته قادرة على الرد بشكل افضل. بعد ذلك، قرر بيليد ان يطوّر نظام شبكة اتصالات سرية لجمع المعلومات، وكان من المقرر ان تخدم هذه الشبكة سلاح الجو بصورة مستقلة عن “الخضر” (كان “الزرق”، اي طيارو سلاح الجو يطلقون صفة “الخضر” على القوات الارضية بسبب زيّها الشبيه بلون شجر الزيتون)، وكان استخدام الطائرات هو النهاية الطبيعية لهذه التقنية. هذا الامر كان معقداً بسبب عقدة حرب “يوم الغفران”، فقد خسر سلاح الجو في تلك الحرب ربع طائراته الحربية فيما تضررت الكثير من الطائرات بصورة لم تعد معها صالحة للعمل، كما ان العديد من طياري سلاح الجو الذين كانوا يتمتعون بهالة الذين لا يقهروا، سقطوا وإقتيدوا أسرى أو قتلوا. وهنا بدأ بيليد يتساءل ماذا لو ان الطيارات لا تحتاج الى طيارين؟ او انها لا تحتاج الى ذخائر بملايين الدولارات؟ وتساءل بيليد ايضا ماذا لو ان سلاح الجو يسيّر طائرات ارخص واصغر ومجهزة فقط بكاميرات واجهزة اتصالات؟ قبل عقد من ذلك الوقت، كان بيليد رئيس قسم التسليح وكان اول من ادخل المُسيرات الى سلاح الجو، على الرغم انها كانت في ذلك الوقت فكرة خيالية. كان حينها بيليد قلقاً جداً من امتلاك العرب صواريخ سوفياتية مضادة للطيران وكنتيجة لذلك “اراد ان يملأ الجو باجسام خادعة رخيصة للغاية مع مواصفات شبيهة بمواصفات الطائرات الحربية على شاشات الرادار”. هذه العربات الجوية من دون بشر بداخلها كانت تطويراً لاختراع اميركي ويتم اطلاقها بالصواريخ ولكي تعود الى قواعدها على الارض كانت تطلق مظلة تقوم طائرة هليكوتبر مثبت الى جسمها نوع من الاعمدة لسحب الالة الطائرة من دون طيار، وتم تجهيز تلك الاخيرة لاحقا بكاميرات. ولكن بعد حرب العام 1973 توصل بيليد الى الاستنتاج بان ذلك لم يكن كافيا لان انظمة اطلاق هذه الطائرات واستعادتها كانت خرقاء ومكلفة وخطرة جدا. وكانت عملية تظهير الصور التي تأتي بها تلك الطائرات تحتاج الى ساعات طويلة قبل تحويل الصور الى المحللين الاستخباريين. وهكذا وفي ضوء هزيمة العام 1973 تم تطوير نوع جديد من الطائرات المسيرة، فقد باتت تلك الطائرات قادرة على الاقلاع والهبوط بصورة مستقلة عبر السيطرة عليها من مقطورة على الارض وباتت تبث صور فيديو حية في الوقت الحقيقي. وفي العام 1982 أصبحت المُسيرات عنصرا اساسيا في ايصال المعلومات الى كبار ضباط سلاح الجو الجالسين في موقع “كناري” تحت الارض في وسط تل ابيب، كما لعبت دورا اساسيا في تدمير بطاريات الصواريخ السورية المضادة للطائرات في سهل البقاع في لبنان”.
كان واينبرغر يقوم بزيارة للشرق الاوسط، وكانت اولى محطاته بيروت ومن بعدها تل ابيب حيث التقى كبار مسؤولي وزارة الدفاع. عندها اظهروا له شريط فيديو لموكبه في شوارع العاصمة اللبنانية. طبعاً لم يعجب واينبرغر بتعرضه للمراقبة ولكن فريقه المرافق اعجب جداً بهذه التقنية
يضيف بيرغمان أن المُسيرات التي استهدفت الدفاعات الجوية السورية “كانت النموذج الاول من المُسيرات التي اسميت “كشاف” (معروفة في “اسرائيل” باسم زاهافان) وهي من صنع شركة “الصناعات الجوفضائية الاسرائيلية”. أراد سلاح الجو “الاسرائيلي” إقناع الولايات المتحدة بالتعاون لتطوير المُسيرات عبر اجراء عرض لها يظهر مدى فعالية هذه الطائرات من دون طيار. كان وزير الدفاع الاميركي كاسبر واينبرغر يقوم بزيارة للشرق الاوسط، وكانت اولى محطاته بيروت ومن بعدها تل ابيب حيث التقى كبار مسؤولي وزارة الدفاع. عندها اظهروا له شريط فيديو لموكبه في شوارع العاصمة اللبنانية. طبعاً لم يعجب واينبرغر بتعرضه للمراقبة ولكن فريقه المرافق اعجب جداً بهذه التقنية. لقد مهّدت زيارة واينبرغر تلك الى “اسرائيل” الطريق لإبرام صفقة ضخمة بين شركة “الصناعات الجوفضائية الاسرائيلية” ووزارة الدفاع الاميركية تم بموجبها بيع 175 مسيرة من طراز “كشاف” للاميركيين والتي حملت في اميركا اسم “طليعة”، وجرى استخدامها على نطاق واسع في البحرية والجيش الاميركيين حتى العام 2007”.
مع مرور السنوات ـ يتابع بيرغمان ـ “جرى ادخال الكثير من التعديلات على المُسيرات بحيث أصبح بامكانها حمل كمية وقود اكثر وجرى تطوير الكاميرات التي تحملها. وفي العام 1990 زوّدت “اسرائيل” اسطول مُسيراتها بأشعة الليزر بحيث بات بامكانها اطلاق شعاع من الليزر لتحديد هدف ثابت للطائرات الحربية. وكان هذا التطور جزءاً من دفع تكنولوجي اكبر للجيش “الاسرائيلي” الذي استثمر الكثير من الموارد لامتلاك وتطوير اسلحة دقيقة (“قنابل ذكية”) بامكانها إصابة الهدف بدقة وفعالية اكثر وبأقل قدر ممكن من الاضرار الجانبية، وقد قام ايهود باراك المهووس بالتكنولوجيا عندما اصبح رئيسا للاركان عام 1991 بتسريع هذه العملية، فقد اراد ان يبني “جيشا ذكيا صغيرا”. زوّد باراك طائرات الهليكوبتر “اباتشي” التابعة لسلاح الجو “الاسرائيلي” بصواريخ “هيلفاير” الموجهة بالليزر. في الوقت نفسه، انتهى اجتماع لقادة العمليات في سلاح الجو “الاسرائيلي” مع ارييه فايسبروت، قائد اول وحدة مُسيرات في سلاح الجو (وحدة “سكوادروم 200″) الى فكرة ثورية تمزج كل تلك التطورات التكنولوجية في عملية من خمس خطوات من اجل خلق طريقة قاتلة في القتل المتعمد”.
اولى تلك الخطوات، يقول بيرغمان، “هي ملاحقة الهدف بمعزل ان كان شخصاً او آلية، وثانيها، ان تقوم المُسيرة ببث صورة الهدف مباشرة الى غرفة العمليات القيادية مزودة بالوقت الحقيقي خلال اتصالها بصناع القرار وصولا الى اعطاء الامر باطلاق النار، وثالثها، أن تقوم المُسيرة بتحديد الهدف بشعاع ليزر الذي تقوم طائرة الهليكوبتر بالتقاطه عبر جهاز استشعار مخصص لهذه المهمة، وهي العملية التي تبدأ من حلقة جمع المعلومات الى الحلقة العملياتية، وقد اطلق عليها اسم “تمرير الزر”، ورابع الخطوات أن تقوم طائرة “الاباتشي” بتحديد الهدف بشعاع الليزر الخاص بها بحيث ان صاروخ الـ”هيلفاير” ينقض عليه، وخامس الخطوات أن يقوم طيار “الاباتشي” باطلاق الصاروخ لتدمير الهدف او قتله. ان دمج ومزاوجة النظامين – الاستخباري والعملياتي – كان تطوراً نوعياً، فالمُسيرات التي اثبتت نفسها انها لا تقدر بثمن في جمع المعلومات اصبحت الان منخرطة ليس فقط في الدور الداعم بل كأداة مباشرة في القتال. وبعدها بدأ العاملون في الوحدة “سكوادروم 200” تدريباً مشتركاً مع طياري “الاباتشي” والعاملين في الوحدة “سكوادروم 113” المسماة بوحدة “الصيادين”، وفي اواخر العام 1991، برزت شكوك لدى سلاح الجو، وبالاخص لدى الطيارين الذين شاركوا في هذه التدريبات، بشأن بعض تكتيكات المواجهة، ففكرة الروبوت الطائر كان يمكن ان تكون فعالة في الحرب ولكن للبعض منهم كانت غير ناضجة بعد. وفي ديسمبر/ كانون الاول عام 1991 قام هؤلاء بتجربة “التسيير الجاف” وحددوا أهدافاً هي عبارة عن آليات تتحرك على الطرقات “الاسرائيلية”. فقد اطلقت ثلاث او اربع مُسيرات وتم اختيار آلية عشوائية لملاحقة الآليات وبث كل شيء الى غرفة التحكم في مقصورة ارضية، ثم أطلق شعاع ليزر على الآلية وبعد اميال قليلة انضمت الى عملية المطاردة طائرات “الاباتشي” ليمارس كل الفريق عملية “تمرير الزر” بحيث ان اجهزة الاستشعار في “الاباتشي” ستطبق على النقطة التي يحددها شعاع الليزر المطلق من المُسيرة، وفي اللحظة التي تشير الى ان “الاباتشي” اطبقت على الهدف ينتهي التدريب. ولكن تقليد عملية اطلاق صاروخ على سيارات تسير على طريق في ارض صديقة شيء وقتل هدف متحرك في منطقة معادية كان شيئا مختلفاً”، يقول بيرغمان.
ضابط في “الموساد” كان من ضمن المشاركين في عملية “حرارة الجسد”: لقد كانت اكبر عملية في التاريخ الحديث بحثاً عن شخص واحد (رون آراد). لم يتبقَ حجر دون ان نقلبه، ولم يتبق مصدر لم نلاحقه، ولم تتبق رشوة لم ندفعها ولم تتبق جزيئة من معلومة لم ندقق بها. كل ذلك لم يوصل الى اي نتيجة، فمن سنة إلى سنة كان آراد ينتقل من ايدي ميليشيا الى ايدي ميليشيا اخرى
يستدرك بيرغمان في معرض تقديم رواية أسر الطيار “الإسرائيلي” رون آراد فيقول: “خلال عملية قصف روتينية في لبنان في اوكتوبر/ تشرين الاول عام 1986، انفجرت قنبلة كانت قد القتها طائرة مقاتلة من طراز اف-4 ابكر مما يجب فمزقت احد اجنحة الطائرة، فاطلق طياراها مقعديهما قبل سقوط الطائرة وحطا في ارض معادية فقامت طائرة هليكوبتر من طراز “كوبرا” بانقاذ الطيار ولكن ليس قبل ان يتعلق بالمنطقة المحاذية لعجلات الطائرة وهو تحت نيران مقاتلي حزب الله، اما ملاح الطائرة رون آراد فلم يتم تحديد موقعه. لقد كان وقوع طيار في ايدي حزب الله فوق ارض معادية صفعة قوية جدا”.
ينقل الكاتب رونين بيرغمان عن ضابط في “الموساد” كان من ضمن المشاركين في العملية التي اسميت عملية “حرارة الجسد” قوله “لقد كانت اكبر عملية في التاريخ الحديث بحثاً عن شخص واحد. لم يتبقَ حجر دون ان نقلبه، ولم يتبق مصدر لم نلاحقه، ولم تتبق رشوة لم ندفعها ولم تتبق جزيئة من معلومة لم ندقق بها”. كل ذلك لم يوصل الى اي نتيجة، فمن سنة إلى سنة كان آراد ينتقل من ايدي ميليشيا الى ايدي ميليشيا اخرى، وفي العام 1989 بعد ثلاث سنوات من اختفائه، اختطفت “اسرائيل” مسؤولين اثنين في حزب الله في محاولة لتحديد موقع رون آراد، كان احدهما الشيخ عبد الكريم عبيد، الرجل الذي تم تعيينه خلفاً للشيخ راغب حرب (الثاني هو مصطفى الديراني)، لم تسفر التحقيقات مع الرجلين عن شيء ولم يتجاوب حزب الله مع عروض التفاوض لاجراء عملية تبادل. لقد ساد عملية البحث عن آراد بصورة جزئية بعض الاخطاء وبعض الاهمال وبعض سوء الحظ، ولكن عمليات البحث اظهرت بصورة كبيرة عجز “اسرائيل” عن اختراق حزب الله او اجهزة الاستخبارات الايرانية التي تدعم حزب الله.
وفي “الصورة الاكبر”، يقول بيرغمان، “كان حزب لله يشن المزيد من عمليات حرب العصابات المعقدة التي كان يُهندسها القائد العسكري للميليشيا عماد مغنية متسبباً بالمزيد من القتلى والأضرار في معنويات الجيش “الاسرائيلي”، وأخيراً في صيف العام 1991 عمل كبار ضباط جهاز “أمان” على خطة لقلب موازين القوى لصالح “اسرائيل”، فقد قرّرت “اسرائيل” خطف الامين العام لحزب الله عباس الموسوي او احد اثنين من نوابه والاحتفاظ بهم كرهائن حتى عودة رون آراد، وكان الهدف الموازي لهذه العملية بحسب قول أحد الضباط “الاسرائيليين” المشاركين فيها “ان تكون عملية رمزية لتوضيح وتأكيد من له اليد العليا في الوضع السائد”.
(*) في الحلقة المقبلة؛ رونين بيرغمان يروي تفاصيل عملية إغتيال السيد عباس الموسوي.