يتحدث د. جوزف زيتون عن “أقوال مأثورة للقديس إندراوس تداولتها المجتمعات المسيحية بين القرنين الأول والثالث التي كانت تعيش آنذاك على الساحل الشمالي للبحر الأسود. كما دلَّت الحفريات التي أجريت في بقايا الكنائس المسيحية لذلك العهد في تلك المناطق على استخراج عدد من القوالب المعدَّة لصنع القربان المقدس التي نُقِشَت عليها صلبان القديس إندراوس التي تتخذ حرف (x)”.
حافظت روسيا الكييفية على الدين المسيحي برغم الإضطهاد الذي عانته الجماعة المسيحية في تلك البلاد، وذلك من خلال البعثات الدينية الآتية من بيزنطية وبلغاريا واسكندنافيا. وقامت كنيسة في كييف منذ عام 945م. وقد اعتنقت الأميرة أولغا الدين المسيحي عام 955م. واعتمدت في القسطنطينية عام 957م. وعاشت طيلة حياتها تعمل بلا ملل ولا كلل على نشر هذا الدين المسيحي بين قومها وعائلتها داعية الله أن يبارك الشعب الروسي كما باركها.
معمودية روسيا
في سنة 980 م. تولَّى الأمير فلاديمير ـ حفيد الأميرة أولغا ـ إمارة كييف، ورئس إتحاداً ضمَّ القبائل السلافية. وعمل على تقوية هذا الإتحاد من خلال قرارين هامين:
أوَّلاً؛ اتخذ كييف مقرّاً لحكمه.
ثانياً؛ حاول توحيد القبائل السلافية بإحلال دين مشترك بينها.
في سنة 987م. عزم الأمير فلاديمير أن يطلع على أديان العالم ليعتنق وشعبه الدين القويم بدل عبادة الأوثان لأنه كان يعتبر هذه العبادة من صنع البشر. أراد الوقوف على الأديان ليميِّزها ويختار لنفسه ما يطمئن إليه، واستضاف وفوداً دينية مختلفة من شعوب ذلك العصر (مسلمون ويهود ولاتين وأرثوذكس).
فقال المسلمون إن ديانتهم تُحَرِّمُ الخمر (والروس لا يمكنهم التخلِّي عن الخمر لقساوة مناخ بلادهم القارس).
وأجاب اليهود عندما سألهم عن ملكهم وأين تقع مملكتهم: “إن الله غضب علينا لخطايانا وخرَّب مملكتنا وبدَّدنا على وجه الأرض وانتزع الملك من يهوَّذا.” فقال لهم: “وأنا لا أريد أن يغضب الله عليَّ مثلكم ويبدِّد شعبي على وجه الأرض”.
وكذلك لم يستسِغ الكلام الذي أدلى به الوفد اللاتيني القادم من روما لعدم اقتناعه.
بعدها تقدَّم رئيس الوفد البيزنطي الأرثوذكسي الفيلسوف قسطنطين وتفوَّه بعظة بليغة، عرض فيها التاريخ المقدس وتعاليم المسيحية شارحاً أيقونة القيامة العامة والدينونة فتحرَّكت مشاعر الأمير فلاديمير الذي هبَّ هاتفاً: “طوبى للأبرار ويا لتعاسة الأشرار”.
أراد الأمير فلاديمير التأكد من سلامة القرار الذي سوف يتَّخذه، فأرسل وفداً من عشرة رجال يُشْهَد لهم بالفضيلة والحكمة لكي يطلعوا عن قرب ويشاهدوا ممارسات هذه الأديان في موطنها. نفَّذ المبعوثون المهمة زائرين عواصم هذه الأديان ومعاينين ممارسات طقوس كل واحدة منها.
وجد المبعوثون في الطقوس والصلوات التي يؤدِّيها المسلمون أنها غريبة عنهم.
وكذلك لم يجدوا في الطقوس الرومانية اللاتينية ما يُرضيهم قائلين: “لم نجد فيها أيَّ جمال يُذكر”.
وأخيراً زاروا القسطنطينية عاصمة مجد الأرثوذكسية في تلك الحقبة من التاريخ، ودخلوا كاتدرائيتها العظمى آجيَّا صوفيَّا (الحكمة الإلهية). وحضروا القداس الإلهي الذي احتفل به آنذاك البطريرك المسكوني بمساعدة عدد كبير من الأساقفة والكهنة والشمامسة وخدَّام الهيكل وما يزيد عن أربعين مرتلاً وقارئاً.
أمام هذا الحشد الكبير من خدَّام الرب بحضور الإمبراطور باسيليوس، أصابت قلوبهم فرحة بما رأوه من ذلك الخشوع المؤثِّر والترتيب الفائق والنظام الكامل فشعروا بغبطة فائقة لدى سماعهم جوقة المرتلين كأنهم ملائكة جاؤوا من السماء يسبِّحون الله على الأرض، وأن تلك القبَّة العظمى هي رمز للقبَّة الزرقاء. وخرجوا من الكنيسة منتعشين متأثرين فرحين.
وعادوا إلى كييف شارحين للأمير فلاديمير ما خالج نفوسهم من تلك المشاعر قائلين له: “لم نكن ندري ما إذا كنا قد صعدنا إلى السماء أم بقينا على وجه الأرض فالأرض لا يوجد عليها مثل هذا الرونق أو ذاك الجمال، ونحن لا ندري كيف نصف ما شهدناه، وكل ما نعرفه هو أن الله ماثل هناك بين البشر وأن قداسهم أفضل من أيِّ شيءٍ شهدناه في سائر البلاد ولن ننسى أبداً جمالاً كهذا الجمال”.
وظلُّوا يردِّدون على ألسنتهم لفظة الجمال، فأضحت تجربة الجمال هذه حجَّة لاهوتية حاسمة: “فهناك حيث الجمال يوجد الله بين البشر”.
عند ذلك تساءل الأمير فلاديمير: “إذن إلى أين نتوجَّه لنقبل سرَّ العماد المقدس”. فتوجَّه إلى القسطنطينية واعتمد هناك. وبعد ذلك أرسل البطريرك المسكوني المطران ميخائيل السوري الأصل وتلميذ البطريرك الإنطاكي يوحنا الخامس إلى كييف وقام ومن معه بمعمودية الروس الجماعية في نهر الدنييبر سنة 988م.
وما لبث أن اقترن الأمير فلاديمير بـ(أنَّا) شقيقة الإمبراطور البيزنطي وأصبحت الأرثوذكسية منذ ذلك الوقت دين الدولة في روسيا.
ودُوِّنَ في سجل الكنيسة الروسية أن أول أسقف علَّمَ الروس وعمَّدَهم هو القديس ميخائيل السوري المنشأ وتلميذ البطريرك الإنطاكي يوحنا الخامس.
وفي عام 1586م. زار البطريرك الإنطاكي يواكيم بن جمعة موسكو وأيَّدَ القيصر غودونوف في مطلبه بتحويل الكنيسة الروسية التابعة للبطريركية المسكونية إلى بطريركية مستقلَّة.
وفي سنة 1589م. زار أيضاً البطريرك الإنطاكي يواكيم القسطنطينية طالباً من أخيه البطريرك المسكوني إرميا الموافقة على رغبة الكنيسة الروسية أن تصبح بطريركية.
الكنيسة الروسية بطريركية
وصدر المرسوم الذي حمل تواقيع البطاركة: إرميا القسطنطيني، صوفرونيوس الأورشليمي ويواكيم الإنطاكي وقضى بتأسيس الكنيسة الروسية كبطريركية مستقلَّة، والتي كانت سابقاً متروبوليتية للبطريركية المسكونية. بعد هذا زار البطريرك إرميا القسطنطيني روسيا سنة 1589م. وساهم في انتخاب الأسقف أيُّوب أول بطريرك للكنيسة الروسية وأصبحت هذه البطريركية هي الخامسة في ترتيب البطريركيات الأرثوذكسية بعد:
أولاً؛ القسطنطينية.
ثانياً؛ الإسكندرية.
ثالثاً؛ الأنطاكية.
رابعاً؛ أورشليم.
وفي سنة 1652م. قام البطريرك مكاريوس بن الزعيم برحلة إلى موسكو دامت إلى سنة 1659م. حيث رسم كهنة وشمامسة في مقاطعة كولومنا وأجرى صلحاً ما بين موسكو ومولدافيا.
وفي سنة 1663م. قام البطريرك مكاريوس بن الزعيم برحلة ثانية إلى موسكو دامت إلى سنة 1666م. حيث أجرى مصالحة بين القيصر الروسي الكسي والبطريرك الروسي نيقون سنة 1666م.
وفي سنة 1823م. اشتكى البطريرك الإنطاكي متوديوس من ظلم العثمانيين، فأرسل مطران بعلبك نيوفيطس إلى روسيا طالباً مساعدة المجمع الروسي والقيصر الروسي والمؤمنين الروس لمؤازرتهم في محنتهم، وكان لهم ما أرادوه. وفي سنة 1848م. أصبح للكرسي الإنطاكي مقرٌّ (أمطش) في موسكو لا يزال حاضراَ حتى يومنا هذا ويرعاه المطران نيفن صيقلي بجدارة منذ سنين.
وتجدر الإشارة إلى أن المتروبوليت فيلاريت متروبوليت موسكو قدَّم ومجمعه والشعب الروسي مساعدات من أجل إعادة بنيان ما هدَّمته مذبحة 1860م. بحق مسيحيي دمشق المنكوبين وغيرهم من مسيحييي المناطق الأخرى من خلال المعتمد البطريركي الإنطاكي في موسكو الإرشمندريت غفرائيل شاتيلا.
وفي سنة 1868م. كتب البطريرك الإنطاكي إيروثيوس كلمة رثاء ووفاء عقب وفاة المتروبوليت فيلاريت ما نصُّه: “لقد انقلبت أفراحنا إلى دموع نذرفها بسبب الخسارة التي أصابت العالم الأرثوذكسي بوفاته”.
في 6 آذار/ مارس 1913م. رئس البطريرك الإنطاكي غريغوريوس الرابع حداد إحتفالات آل رومانوف بمرور 300 سنة على تملُّكهم العرش الروسي وخلال القداس الإلهي رقَّى البطريرك إلى الأسقفية الإرشمندريت ألكسي الذي أصبح بعد مدَّة بطريرك موسكو وسائر روسيا. وعاد مصطحباً معه عشرة رهبان روس وسلَّمهم دير مار الياس شويَّا. وقد ذاع صيتهم بين الأهالي لما عُرِفوا من تقوى ونسك ومحبَّة لكنيسة المسيح، وقاموا باستصلاح الأراضي الزراعية في محيط الدير وأراضي وقف قرية أبو ميزان التابعة للدير، والتي لا تزال تعطي حتى اليوم ثمار الزيتون والكرمة التي زرعوها. وقد اضطرُّوا للعودة إلى روسيا بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى.
وعندما قامت الثورة الشيوعية في روسيا وحملت معها أكثر من مليون روسي خارج البلاد والحدود، قدَّمت كنيستنا الأرثوذكسية الإنطاكية وأبناء إنطاكية مساعدات وفاءً لهذا الشعب الروسي ولكنيسته المتألِّمة.
وعلى هذا النهج الأخوي سار البطريرك ألكسندروس طحان الدمشقي والبطاركة ثيودوسيوس أبو رجيلي والياس معوَّض. وفي سنة 1988م. رئس البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم إحتفالات روسيا بمرور ألف سنة على معمودية روسيا.
ولا يسعنا إلَّا أن نذكر بالخير ما قدَّمته الجمعية الإمبراطورية الروسية الأرثوذكسية والجمعية الفلسطينية من خدمات جلَّى في مجال التعليم لأبناء الكرسيين الإنطاكي والأورشليمي، وذلك بمؤازرة الدولة والشعب الروسيين في الحفاظ على الأرثوذكسية.
وهنا يحضرني قول للقديس يوحنا الذهبي الفم عندما كان في الطريق إلى منفاه: “أقول للمضطهدِين، إنكم لا تقاومونني أنا، بل تقاومون الكنيسة. ولكن ثقوا، إن الكنيسة هي أقوى من الجميع.. ومهما هاج البحر وعظم هيجانه، فإن سفينة المسيح لا تغرق”.
وعادت موسكو الأرثوذكسية بعدما اعتملت في نفوس الروس المؤمنين البسطاء الذين استمرُّوا يمارسون الأسرار المقدسة من عماد وأكاليل وانتماء إلى الكهنوت الشريف وللرهبنة، برغم الضنك الشديد والاضطهاد والنفي إلى سيبيريا والقتل والتعذيب والتغييب. وقدَّم العديد من الإكليروس الروسي ذواتهم شهداء بسبب قيامهم بالخدمات الروحيَّة لأجل الرعيَّة.
نهضت روسيا ظافرةً وأعادت الكنيسة الروسية جلال الأرثوذكسية ومهابتها وعاد الروسي المؤمن يقف ساعات طويلة ممارساً الشعائر في الكنائس بدون ملل أو تذمّر (لا كراسٍ في الكنائس الروسية للجلوس).