

تعود العلاقات الفلسطينية مع جنوب إفريقيا إلى خمسينيات القرن الماضي. عُقد أول لقاء رسمي بين الحركة الوطنية الفلسطينية ونظيرتها الجنوب إفريقية في الجزائر عام ١٩٦٥. ياسر عرفات في خطابه في الأمم المتحدة في نيويورك عام ١٩٧٤، أكد على أهمية الحرية والمساواة لشعب جنوب إفريقيا، وأدان نظام الفصل العنصري، وشدّد على التضامن المطلق للفلسطينيين مع شعب جنوب إفريقيا. فقد تميّز الفلسطينيون بالفعل، منذ عام ١٩٦٠، بتضامنهم الفوري والراسخ ودعمهم لحركة التحرر في إفريقيا. بالمقابل، تميّز الغرب، برفضه القاطع قبول طلبات المساعدة من مانديلا وأنصاره، تماماً كما يحصل اليوم مع غزة.
***

بعد إطلاق سراح نيلسون مانديلا في العام ١٩٩٠، عُقدَ أول لقاء بين الزعيمين في العاصمة لوساكا إلا أن العلاقة كانت قائمة بين عرفات وعائلة مانديلا منذ اعتقال الثاني في عام ١٩٦٢. عام ٢٠١٦ كرّمت فلسطين نيلسون مانديلا، بنصب أقيم له في مدينة رام الله، تقدمة من مدينة جوهانسبرج المتوأمة مع مدينة رام الله، وهو تمثال برونزي يبلغ ارتفاعه 20 قدماً ويُصوّر مانديلا رافعاً قبضته نحو السماء.
***
مع اندلاع “طوفان الأقصى” وبدء الحرب الإسرائيلية على قطع غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، ومع أول هدنة ومفاوضات للإفراج المتبادل عن الأسرى، عرضت حركة حماس مبادلة ٢٣٠ رهينة محتجزين في قطاع غزة بـ«جميع السجناء الفلسطينيين في إسرائيل». ولهذا الخبر تكملة معروفة؛ إذ رفضت تل أبيب العرض وخصوصاً أنه يشمل القيادي الفلسطيني الفتحاوي مروان البرغوثي، السجين منذ عام ٢٠٠٢ والمحكوم بالمؤبد ٥ مرات بتهمة شن هجمات في إسرائيل وهو ما نفاه مراراً. وأصرّ على براءته ورفض شرعية محكمة الاحتلال. والبرغوثي إذ يُبرّر الهجمات على الأهداف العسكرية، لطالما كان يُدين في الوقت نفسه أي استهداف للمدنيين الإسرائيليين.
ويتفق معظم المراقبين على أن اسرائيل لن توافق على أية صيغة تفضي للإفراج عن «رجل الوحدة السياسية الفلسطينية»، كما يصفه كثيرون. زدْ على ذلك أن إسرائيل ترفض «حل الدولتين» بينما يدعو البرغوثي إلى حل سياسي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ويدافع عن اتفاقيات أوسلو، من دون رفض خيار الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي، علماً أنه ليس خافياً دوره في الانتفاضتين الأولى (1987) والثانية (2000)، قبل أن يُختطف من رام الله على يد جنود الإحتلال في العام 2002، حتى صار يُلقب بـ«نيلسون مانديلا الفلسطيني».
***
لطالما ارتبط نضال الشعب الفلسطيني من أجل التحرير والسيادة وتقرير المصير، وحركة التحرير في جنوب إفريقيا، بشكل وثيق، وعندما جُرّد الفلسطينيون من جزء من أراضيهم في العام ١٩٤٨ عقب قيام دولة إسرائيل، تعرّض السود في جنوب إفريقيا لعمليات طرد واسعة النطاق من أراضيهم في العام نفسه، وهو ما شكل أحد أبرز دعائم نظام الفصل العنصري
في العام ٢٠٠٦، لعب مروان البرغوثي دورًا محوريًا في توقيع «وثيقة التفاهم الوطني للأسرى» في سجون الاحتلال من قادة فتح والجهاد الإسلامي والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وحماس، بهدف ضمان الوحدة السياسية الفلسطينية، غير أن هذه الوثيقة شكّلت فخاً لإسرائيل؛ فهي إذ تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود عام ١٩٦٧ وجعلت البرغوثي محاوراً مقبولاً من أوروبا، إلا أنها لم تتنازل عن حق المقاومة الفلسطينية في تحرير الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧ وفقًا للقانون الدولي. كان الهدف من الوثيقة تشكيل حكومة ائتلافية لكسر الجمود الذي أعقب فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية في قطاع غزة عام 2006، الأمر الذي ترك تداعياته السلبية على المشهد الفلسطيني الداخلي منذ العام 2007 وحتى يومنا هذا. وقد بقي مروان البرغوثي على الحياد إذ كانت لديه فرصة قوية للفوز في الانتخابات التشريعية وهذا ما جعل محمود عباس (أبو مازن) يُعلّق كل الاستحقاقات الانتخابية منذ ٢٠٠٦ برغم انتهاء ولايته عام ٢٠٠٩.
***
في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، بالإضافة إلى ثلاثة مسؤولين من حركة حماس. وقد ساهمت جنوب إفريقيا في صدور القرار إثر مبادرتها إلى تقديم إحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية في ١٧ نوفمبر/تشرين الثاني، إلى جانب أربع دول أخرى هي: بنغلاديش، بوليفيا، جزر القمر وجيبوتي (أصغر دولة عربية). واستنادًا إلى الإحالة التي قدمتها «دولة فلسطين» عام ٢٠١٨، كرّر الطلب الجنوب إفريقي استخدام مصطلح «الفصل العنصري» لوصف سياسة إسرائيل في احتلال الأراضي الفلسطينية.
قبل ذلك، وتحديداً في 24 مايو/أيار، أمرت محكمة العدل الدولية، التي كان يرأسها اللبناني نواف سلام قبل أن ينتقل إلى رئاسة الوزراء في بيروت، إسرائيل «بوقف هجومها العسكري فورًا» على رفح. هذا القرار هو الرابع الذي يصدر عن محكمة الأمم المتحدة في لاهاي، عقب إجراءات رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في 29 ديسمبر/كانون الأول 2023، رداً على جريمة الإبادة الجماعية المرتكبة في قطاع غزة.
وفي وقت سابق، وبناءً على طلب جنوب إفريقيا، طالبت محكمة العدل الدولية إسرائيل ببذل كل ما في وسعها لمنع أعمال الإبادة الجماعية في القطاع الفلسطيني في 26 يناير/كانون الثاني 2024، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع في 28 مارس/آذار من العام نفسه.
***
يقود الفريق القانوني الذي أرسلته جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية الأستاذ في القانون الدولي جون دوغارد، الذي كان قد شغل منصب قاضٍ مؤقت في محكمة العدل الدولية، ومقرراً خاصاً للأمم المتحدة في قضية حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية (2001-2009). ويضم فريقه، المؤلف من تسعة قانونيين، فوسي مادونسيلا، سفير جنوب إفريقيا لدى هولندا.
ويقول مادونسيلا في مؤتمر عُقد في البرلمان الأوروبي ببروكسيل مطلع هذه السنة: «إذا أحالت جنوب إفريقيا القضية إلى محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، فذلك لأنها تعتقد أن عليها التزامًا خاصًا تجاه شعبها، وتجاه المجتمع الدولي ككل، بضمان إدانة ممارسات الفصل العنصري المشينة، أينما وقعت، ووضع حدٍّ فوري لها». وأضاف: «تحررنا من نظام الفصل العنصري الوحشي أصبح ممكنًا بفضل مشاركة الشعوب الصديقة”، ويشير إلى أن الفلسطينيين “ظلّوا حلفاء لنا باستمرار»، ما يعني أن حركتي التحرر الفلسطيني والجنوب إفريقي هما حركتان مترابطتان وأهدافهما مشتركة.
ويعود هذا الربط إلى البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقيات جنيف الذي صدر في العام ١٩٧٧، واعتمدته اللجنة الدولية للصليب الأحمر لحماية مقاتلي الجيوش غير النظامية، وذلك في أعقاب القمع الوحشي لثورات المراهقين السود في شوارع سويتو، بدءًا من عام ١٩٧٦، وبالمقابل، القمع الذي مارسته إسرائيل ضد المراهقين الفلسطينيين خلال الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧.
هذان القمعان صدما العالم وأطلقا دينامية في كل الإتجاهات دولياً، أثمرت انتخابات ديموقراطية في جنوب إفريقيا عام ١٩٩٤، بينما فشلت عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية وتجربة الانتخابات الفلسطينية في غزة عام 2006.
ولطالما ارتبط نضال الشعب الفلسطيني من أجل التحرير والسيادة وتقرير المصير، وحركة التحرير في جنوب إفريقيا، بشكل وثيق، وعندما جُرّد الفلسطينيون من جزء من أراضيهم في العام ١٩٤٨ عقب قيام دولة إسرائيل، تعرّض السود في جنوب إفريقيا لعمليات طرد واسعة النطاق من أراضيهم في العام نفسه، وهو ما شكل أحد أبرز دعائم نظام الفصل العنصري.
***
أمضى مروان البرغوثي أكثر من عقدين من الزمن في الزنازين، مثله مثل نيلسون مانديلا، مما يمنحه بلا شكّ رمزية وقدرة إستثنائية على التفاوض السياسي ويُكلّله بالنزاهة والبطولة والوطنية في نظر أغلبية الجمهور الفلسطيني بما في ذلك الحمساوي. وتُبين معظم استطلاعات الرأي بين الفلسطينيين أنه الشخصية الأكثر شعبيةً وبفارقٍ كبيرٍ على محمود عباس وقادة حماس في الداخل كما في الخارج، وهل هناك شرعية فلسطينية تتفوق على شرعيةُ الفلسطينيّ السجين المقاوم؟
لو كان الأمر متروكاً للفلسطينيين، لما اختاروا اسماً توافقياً لقيادة مرحلة ما بعد 7 أكتوبر غير اسم مروان البرغوثي، باعتباره الأقدر على مداواة جراه أهله وكسب ثقة المقاومين باتجاهاتهم كافة. أمرهُ يختلف كلياً عن أمر محمد دحلان المقيم في أبو ظبي، والذي كان قد صرّح لصحيفة «إيكونوميست» بوجوب تشكيل حكومة تكنوقراطية لمدة سنتين في قطاع غزة والضفة بعد الحرب وإجراء انتخابات دون استبعاد أي مكون، ولكنه أضاف «زمن الأبطال انتهى مع ياسر عرفات». لم يذكر محمد دحلان اسم مروان البرغوثي ولكنه كان هو المستهدف من هذا التصريح.
هل يُمكن أن يكون مروان البرغوثي شخصية «اليوم التالي» فلسطينياً؟