من العراق إلى أوكرانيا.. الحقيقة هي الضحية

تجرى مقاربات فى العالم العربى تتهم الغرب بممارسة الحد الأقصى من ازدواجية المعايير والتوغل فى العنصرية، إذا ما قورنت السياسات والمواقف فى الحرب الأوكرانية بما هو متبع فى قضايانا وحروبنا ومصائرنا. بالنظر الإنسانى والأخلاقى فإنها مستحقة وجدارتها لا شك فيها بنصوص القانون الدولى، غير أنها بالوقت نفسه تكاد تقع فى وهم القياسات الخاطئة.

إنها حقائق القوة والاستراتيجيات والمصالح قبل وبعد كل شىء.
فى مثل هذه الأيام قبل (19) عاما سقطت بغداد، فكّكت دولتها واستبيحت مقدراتها وانتهكت حياة مئات الألاف من مواطنيها واضطرت مئات ألوف أخرى للنزوح عن ديارهم فى أسوأ ظروف إنسانية دون أن تمد يد عون من الغرب تخفف الآلام وتضمد الجراح، كما يجرى الآن بأريحية لافتة للإنتباه مع النازحين الأوكرانيين.
الوضع مختلف تماما والقياس مستحيل على أي قيم إنسانية أو قانونية.
فى الحالة الأوكرانية، الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى وحلف «الناتو» أطراف مباشرة فى الحرب بتدفقات سلاح متقدم إلى ميادين القتال لاصطياد الدب الروسى فى حرب استنزاف طويلة وحروب مدن يصعب حسمها دون كلفة باهظة مع فرض عقوبات اقتصادية ومالية ورياضية وفنية لم يسبق لها مثيل فى التاريخ المعاصر.
بمعنى آخر، فإن أوكرانيا رهينة لصراعات قوى كبرى يتحدد وفق نتائجها وتداعياتها مستقبل النظام الدولى وموازين القوى المستجدة فيه، وليست مقصودة بذاتها.
وفى الحالة العراقية، الأطراف نفسها شاركت فى الحرب تحت قيادة أمريكية مباشرة لتوظيف حادث الحادى عشر من سبتمبر/أيلول (2001) فى إعادة ترتيب الإقليم وهندسته من جديد بالتقسيم والتفكيك تحت لافتة «الشرق الأوسط الجديد».
عشية الحرب على العراق استخدم رئيس الوزراء البريطانى «تونى بلير» كل ما هو متاح من وسائل لتسويغها وردد أكاذيب وادعاءات عن امتلاك نظام «صدام حسين» أسلحة دمار شامل.
ثبت بيقين أنه لم تكن هناك أسلحة دمار شامل، وأن التقارير الاستخباراتية التى تردد فحواها فى مجلس العموم البريطانى والكونجرس الأمريكى كانت كاذبة واستخدمت لخداع الرأى العام.
وثبت بيقين أنه لم تكن هناك أدنى صلة لنظام «صدام حسين» بتنظيم «القاعدة»، بل إن التنظيم وجد طريقه لبلاد الرافدين بعد احتلالها.
فى تلك الأيام ارتفعت أصوات عربية عديدة تحذر من بوابات الجحيم توشك أن تفتح، كان أول من أطلق ذلك التحذير أمين عام الجامعة العربية فى ذلك الوقت «عمرو موسى».
كان قرار الحرب قد اتخذ، ولم تكن هناك قوة ردع كافية لمنع الكارثة المحدقة.
الأسوأ أن نظما عربية عديدة كانت طرفا مباشرا فى الاستعدادات العسكرية اللوجيستية لغزو العراق، وشاركت بالتحريض عليه حسب شهادات متواترة وموثوقة.
لم يخضع «بلير»، كما الرئيس الأمريكى الأسبق «جورج دبليو بوش»، ولا أيا من الذين تورطوا فى جرائم الحرب لأية محاكمة.
فى الحرب العراقية جرائم الحرب ثابتة، لا افتراضية ولا دعائية لإحكام الحصار على موسكو فى المستنقع الأوكرانى دون أن تكون هناك حتى الآن وثائق وأدلة وقرائن تثبت وتؤكد، حسب رأى المحكمة الجنائية الدولية نفسها، التى لم يطرح عليها الملف العراقى، بأية درجة أو من أية جهة!

انتهكت كل القيم والأعراف والقوانين الدولية بحرب العراق، ولم يجر الاحتكام إليها بأوكرانيا. فى المرة الأولى، استغرق الأمر سنوات عديدة حتى تكشفت كل الحقائق والمآسى السياسية والاستراتيجية التى تبعت احتلال بغداد. فى المرة الثانية، كانت الضحية الأولى هى الحقيقة نفسها، التى عندما تتكشف فإن العالم سوف يكتشف قدر ما تعرض له من خديعة

فى بحور الدم العراقى سقطت الأقنعة وادعاءات الديمقراطية التى وعدوا بها.
تصادمت المقاومة الشرسة لقوات الاحتلال مع أوهام شاعت قبل الحرب أن الشعب العراقى سوف يقابل غزاته بأكاليل الغار!
بقوة الصور بدت الصدمة هائلة فى الرأى العام العالمى عام (2004) عند تكشف حجم الفظائع فى سجن «أبو غريب»، التى تضمنت قتلا تحت التعذيب واعتداء جنسيا، حتى أن جنديا أمريكيا صرخ: «لقد كرهت نفسى».
لعب الكاتب الصحفى الاستقصائى الأمريكى «سيمور هيرش» دورا رئيسيا فى كشف قدر الفظائع والانتهاكات وتقويض ادعاءات للرئيس الأمريكى «جورج دبليو بوش» عن الديمقراطية التى يبنيها.
اعتداءات مماثلة جرت فى معتقل «كروبر» قرب مطار بغداد الدولى لم يجر الالتفات إليها في أية وسيلة إعلامية حيث كان يعتقل الرئيس العراقى «صدام حسين» مع مائة من كبار معاونيه.
فى وثيقة خطية كتبها نائب الرئيس «طه ياسين رمضان» من داخل المعتقل، أرسلت إلى بيروت ومنها إلى القاهرة مؤتمنا عليها، نشرت نصها فى صحيفة «العربى» مطلع أكتوبر/تشرين الأول (2005)، دون أن يثير ذلك حفيظة أحد.
فى الوثيقة الخطية (14 صفحة) إشارات لاعتداءات بدنية على الرئيس العراقى ونائبه فور مغادرة قاعة المحكمة، التى شهدت رفضا منهما لتعريف هويتهما.
قيل إن «صدام حسين» ارتكب انتهاكات مماثلة، ربما أبشع، لتسويغ الاعتداء بالضرب والتعذيب على أركان حكمه.
أسقطت تلك الحجة، التى ترددت وقتها على نطاق واسع، أية فروق إنسانية مدعاة، وأية شرعية منتحلة لقوات الاحتلال.
فى مشاهد غير إنسانية وغير قانونية بأية معايير دولية جرى ضرب الرئيس العراقى ورفافه، وإجباره معهم على الزحف أرضا لمسافات طويلة، أو الجلوس شبه عراة إلا من دشداشة على الرأس لساعات طويلة.
عندما نقلوا إلى المحاكمة قيدت أياديهم وعصبت العيون، وسحبوا كقطعان غنم.
هكذا بالحرف كتب «طه ياسين رمضان».
كان التجاهل بالصمت نوعاً من التواطؤ على الحقيقة.
فى الحالة الأوكرانية بدا الإعلام الغربى كله صوتا واحدا ضد كل ما هو روسى، حتى أصبح لافتا للإنتباه لمرة نادرة أن يعترض صحفى ألمانى على فضائية عربية، لا فى صحافة بلاده، على «الخلط الفادح بين بوتين وبوشكين»، أو بين السياسة المتغيرة والثقافة الموروثة.
فى صراع الاستراتيجيات والمصالح انتهكت كل القيم والأعراف والقوانين الدولية بحرب العراق، ولم يجر الاحتكام إليها بأوكرانيا.
فى المرة الأولى، استغرق الأمر سنوات عديدة حتى تكشفت كل الحقائق والمآسى السياسية والاستراتيجية التى تبعت احتلال بغداد.
فى المرة الثانية، كانت الضحية الأولى هى الحقيقة نفسها، التى عندما تتكشف فإن العالم سوف يكتشف قدر ما تعرض له من خديعة.

إقرأ على موقع 180  أوكرانيا من حرب المنهكين إلى سلام المنهكين!

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  قمة جدة العربية.. ماذا لو حضرت إيران وتركيا؟