قيل: “في البدء كانت الكلمة”. غلط. في البدء كان الفعل. الكلمات سهلة المخارج. الالفاظ صوت وحنجرة وشفاه. الكلمات تطنطن، تطرب، تلعلع، تهذي، تثرثر، تقنع. تصير سلاحاً من شتائم. قصف كلامي ماروني، يرد عليه قصف مضاد شيعي. لا تنجو طائفة من حروب الكلمات وغبار النفاق. من الأقوى؟ الفاجر هو الأقوى. الصدق مات من زمان بعيد. لذا، عيب أن تكون صادقا؟ قف في الصف وامتثل. كن كغيرك. الفضاء ملكك، فاملأه مدائح، او فاملأه شتائم.. وهكذا يكتمل لبنان ككيان للصوص والكلاب. هذه الكلمات في لبنان، أن تُعلم سواك بنواياك ومخلفات عقلك. هدف العلم أن تتعلم. هيهات أن يتعلم اللبنانيون من الكلمات. هذه، تحاصر ادمغتنا وتخرق آذاننا. قصف كلامي يومي يخرق آذاننا. الاغبياء بحاجة دائمة إلى كلمات ليقذفوا بها الخصوم. والخصوم منتشرون: هنا موارنة، وهناك خندق للدروز، وهنالك جبهة للشيعة، وهناك شتات سني محبط بحاجة إلى “قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل”.. واذا كنتم لا تصدقون ما جاء اعلاه، التفتوا إلى الشاشات المسائية. الى وسائل التواصل: عامان من التخندق خلف الكلمات والشعارات والاتهامات و”المسبات”. والمرشحون راهناً يتفننون في بيع الاوهام من خلف الميكروفونات. قذف مركز من الوعود والاكاذيب. لهم قدرة التنويم المغناطيسي، والتخدير الطائفي، واستنفار الغرائز والمذهبية و.. الاقليمية كذلك. لبنان مالئ الدنيا وشاغل الابالسة الدوليين. كل ذلك يحدث ولبنان يتهاوى، يتساقط، يتحلل، يتفتت. اللبناني، صنف خاص من العواء المستدام.
***
الموسم موسم “انتخابات”. غلط. غلط. غلط. انها تقليد غبي جداً.
هذا زمن المبايعة. لمن سينتخب الشيعي؟ لمن سيقترع السني؟ الدرزي ليس له أن يختار؟ الماروني يشحذ العنصرية ويا غيرة الرئاسة.. هؤلاء يتسابقون والقادة نائمون على مجد الاستتباع. الزعامة الطائفية في لبنان، لها قدرة التنويم المعناطيسي. فيا جماهير الطوائف شدوا الرحال إلى حيث تُزيّن معاصمكم بالأغلال. للأغلال رنين الإنحلال.
انت تعرف أن شيئاً لن يتغير، الأكثرية ستعود إلى المجلس مع بعض الارباح القليلة أو الخسائر الضئيلة. اراهنكم على كل ما املك: ستفوز الطوائف كلها، بنسب متفاوتة التعادل (صيغة مبهمة، اليس كذلك؟). ولا يبقى للسكرانين بالتغيير، سوى نتف من الاصوات التي صدقت أن الانتخابات قد تغير، أو ستغير.. عبث، “هذا حصرم في حلب”
كل هذا يحدث ولبنان مهدد بالزوال. كل هذا يحدث واللبناني البائس يبحث عن حفنة من المال، ويتحسَّر على ما كان لديه من رصيد في المصارف. والمصارف حصن مصان بملائكة النفاق وشياطين الشقاق. لا شعب يشبهنا ابداً. سنتان من الاذلال والقهر والمهانة وفقدان الأمل واليأس الكئيب. سنتان من النفاق والقهر والقرصنة والتهرب. سنتان والمجلس النيابي يمارس الفجور المالي والبناء الحسابي ويتهرب من “الكابيتال كونترول”. يا أولاد الأفاعي، المؤسسات الدولية تتكالب على جثة تساوي مئة مليار دولار منهوبة وموزعة على اولي السياسة و”القضايا”: علي بابا والمئة حرامي تقريبا، كي لا تسيء إلى قلة قليلة عاجزة وصامتة من الاوادم. العار كل العار لنا. لأننا نتنفس الهواء نفسه. هواءً ملوثاً، فاحماً، ودائماً.
***
اننا نعيش مأساة الكلمات. انتحرت المعاني. الكلمات تكشف عن مجهول. تنبئ عن مدلول. الا انها عندنا في لبنان، الكلمات تتكاثر لتخفي الموضوع والمأساة ولتستر الاوجاع. ألم تكتشف أيها اللبناني، الفينيقي، المركنتيلي، الذيلي، الزاحف على جبهته، المبايع بتشوق عالي النبرات والاستفزازات.. ألم تكتشف أنك لا تساوي شيئاً عند نوابك ووزرائك واحزابك وطوائفك. أنت اليوم منشغل، وفق الدليل الطائفي، بحرب اوكرانيا، بالمحاور الاقليمية، بحرب مستدامة في اليمن. تقف إلى جانب السعودية في كل مكان هي فيه، ومع إيران في كل ما تقوم به. أنت اليوم بيّاع اصوات بنبرة بائسة، لا تطعمك خبزاً، ولا تشتري دواء. الكلمات عمياء لا ترى، لأن ستاراً دخانياً يحجبها.
ثم، وهذا هو الأهم. انت تعرف أن شيئاً لن يتغير، الأكثرية ستعود إلى المجلس مع بعض الارباح القليلة أو الخسائر الضئيلة. اراهنكم على كل ما املك: ستفوز الطوائف كلها، بنسب متفاوتة التعادل (صيغة مبهمة، اليس كذلك؟). ولا يبقى للسكرانين بالتغيير، سوى نتف من الاصوات التي صدقت أن الانتخابات قد تغير، أو ستغير.. عبث، “هذا حصرم في حلب”. الانتخابات، تشبه حفلة طرب نهارية، والكل سيكون رابحاً. ثم ، يوماً بعد يوم، “تعود حليمة إلى عادتها القديمة”.
***
شعب مفتح العيون واعمى لا يرى.
هذا الشعب الزاحف على جبينه إلى صناديق الاقتراع لديه لذة المذلة. قاموس الافعال فارغ جداً. أفرغه هؤلاء وهؤلاء واولئك من كل فلس. ومن ثم سيبدأ النق والنقار: من سيسدد الديون؟ المرحوم مسبقاً، حاكم مصرف لبنان وحده، انه لم يكن وحيداً. تجرأوا على تسمية شركائه. من الرؤساء الرؤساء الرؤساء، من الوزراء الوزراء الوزراء، النواب النواب النواب، المدراء ورؤساء المجالس، المدراء العامون، الصناديق الخاصة. صندوق المهجرين، مجلس الانماء والاعمار (الاسم غلط). مجلس الجنوب، البلديات. رياض سلامة ليس وحيداً. هو قائد أوركسترا ممتاز. يقود ويقاد. عازفون مميزون في توزيع النوتات الموسيقية والمالية، باتفاق قائد الاوركسترا..النشالون هم.. هم.
تعرفونهم واحداً. واحداً. ثم اياكم أن تنسوا ارباب المصارف وآلهة المال وملائكة الاستدانة. خذوا نفساً الآن. استحضروهم الواحد تلو الآخر. توبوا لهم سمعاً وطاعة. مغفورة لكم خطاياكم. نحن بانتظار الفتات منكم.
لا نجد في الكرة الارضية شبيهاً لكم، واشباهاً “لأمة عربية او سورية”، سيان. من المحيط إلى الخليج. مساحات من الطغيان والاستبداد والتبعية، وشعوب تلتزم الصمت، اكراماً للخبز والفتات. عالم عربي، رؤوس شعوبه منحنية. مسكينة ثورة البوعزيزي. انقض عليها الغرب “الديموقراطي” المنافق. والسلطات الاستبدادية، وجماعات التكفير الاسلامية.
***
آخ .. “يا أمة ضحكت من جهلها الأمم”.
إلى يتامى المعرفة، انقياء العقل، الماضون في صراط الوعي، الراغبون بالعمل الدؤوب، بلا صراخ تلفزيوني، وادعاء غوغائي. نقول: أنتم الخميرة. علمّوا اولادكم، أن اللكمة خير من الكلمة، أن العقل خير من القول، أن الانسان هو البداية والنهاية وبين بين، وأجمل ما في الانسان، نقاء معرفته، رفض التبعية، التمرس بالحرية. حرية الرأي والعمل والاختيار. أن يمارس حريته ولا يتنازل عن غبرة منها. أن يؤمن بأن التعدد ثروة، والاستتباع دناءة وحقارة. أن يحسن استعمال قبضته. أن يبحث عن المعرفة العملية. أن يعرف كيف يواجه مع اقرانه حكم الكاذب والتاجر والمتعصب والطائفي.. أن يبتعد قدر الامكان عن المسايرة، عن استعمال اللغة “الرخوة”. لغة المواطن قوية، صارمة، مواجهة، نافذة، ترفض السير على الجباه.
***
الذهاب إلى الانتخاب انتحار. المقاطعة موقف ومحطة للبناء عليها. أن لا تنتخب يعني أن لا تكون ملوثاً. كل منتخب، ولبنان حاليا في الجحيم السفلى، هو ملوث ومرتكب، مهما كانت مبرراته
ماذا بعد؟
لا تسكر بالأمل. الأمل وحده دخان يعمي العقل. كأن تقول: “شدة وتزول”. لا. هذا استسلام. عليك أن تتجرأ على تحطيم الاصنام الظالمة والحية والمفترسة. عليك أن تصيب “الجماهير الفالتة من العقل والخلق” في قلبها. تجريد الجماهير من تصوراتها القبلية صعب جداً. الجماهير مصابة بداء الاوهام، لن تغير شيئاً. تجاربنا السابقة هنا وهناك من دنيا العرب، فاشلة جداً. انجبت دكتاتوريات سفاحة. منعت الكلام. هي التي تتكلم فقط. على عكس لبنان الذي لديه فائض من الفوضى، تسمى طائفية. طغى واستبد ونهب وكذب وسرق وارتكب في وضح النهار جنس الموبقات.
اذا لم يحدث ذلك، فلن نجد سوى المزيد من الدكتاتوريات الطائفية، المصرفية، السياسية وعندها “ليت ساعة مندم”.
***
أخيراً؛ الجهل يقود إلى مزيد من الجهلة.
عبيد الكلمات شُلَّت السنتهم. يؤمنون بما يسمعونه.
الطرش مفيد احياناً، والخرس كذلك.
الدكتاتورية الطائفية تزداد اتساعاً. يا ابرياء القلب والعقل، لا تصدقوا شاشاتكم، كل شاشاتكم. إما تعتدي على ابرياء، او تحمي مرتكبين. بحلقوا جيداً. لبنان مهترئ اعلامياً، واخلاقه محفوظة ومحروسة في محفظته.
الذهاب إلى الانتخاب انتحار. المقاطعة موقف ومحطة للبناء عليها. أن لا تنتخب يعني أن لا تكون ملوثاً. كل منتخب، ولبنان حاليا في الجحيم السفلى، هو ملوث ومرتكب، مهما كانت مبرراته. خاصة وانه يعرف أن التغيير مستحيل، والأسوأ ممكن، سيسلموننا إلى الذئاب الدولية. سنصبح مركوبين لا راكبين. تباً لهكذا كيان وهكذا بلاد.
أخيراً أيضاً، ابرر عدم كلامي عن الأحزاب بالآتي: الاحزاب كالطوائف، عبيد العقائد والكلمات.
أخيراً مرة أخرى. هذا البلد كان صالحاً ربما.. لأجدادنا. ولكنه لم يعد يصلح لمن يشعر بنفسه أنه انسان.
أيها الناس إذاً. ابحثوا عن الإنسان فيكم، والتصقوا به. إنسانيتكم خير من تحزبكم الاعمى وتطيفكم السام وتبريراتكم السخيفة والهزيلة.
والى اللقاء، إلى ما بعد ما يسمى اعتداءً، “الانتخابات”.
انها موسم تجديد الولاءات، والسير بالجبهات إلى مواخير السياسات.