“لبنان حماس”.. استثمار العاروري وخيال السنوار!

مع إنطلاق معركة "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ثبت بالأدلة القاطعة أن لدى حركة حماس استثمار فعلي في الجغرافيا اللبنانية عموماً، وليس في المخيمات الفلسطينية فحسب، وهذا الإستثمار ليس وليد لحظة "طوفان الأقصى"، بل امتداد طبيعي لجهود الحركة في لبنان منذ إزاحة خالد مشعل وفريقه من الواجهة السياسية قبل سنوات.

ثمة أمر لا يمكن القفز فوقه، وهو أن الرؤية السياسية لتيار يحيى السنوار وصالح العاروري في حركة حماس، تختلف جذرياً عن رؤية خالد مشعل وفريقه الذي ينتمي إلى مدرسة فكرية ـ سياسية مختلفة؛ فقد كان مشعل مقتنعاً بنظرية رئيسية هي فصل السياسي عن العسكري وتطويع المال والأمن لهما، وهذه الرؤية قد تكون أصابت في تواريخ ومحطات واضحة، حيث أن موقف الحركة من “الربيع العربي” وتحديداً في سوريا، لم يؤثر على الدعم الإيراني لحماس، ولم تنقطع علاقة “كتائب القسّام” (الجناح العسكري لحماس) مع الحرس الثوري الإيراني (قوة القدس تحديداً) ولو للحظة واحدة.

لكن النظرة المغايرة ليحيى السنوار وزميله في الإعتقال صالح العاروري، أضفت وجهة جديدة؛ فمع انتهاء المرحلة التنظيمية لخالد مشعل في نهاية العام 2017، كان العاروري يُعيد ترتيب علاقة حماس بـ”المحور”، وعلى الرغم من أن وصل ما انقطع بعد أحداث سوريا جرى بمباركة مشعل، إلا أن العاروري وزملاءه في الملف سمعوا كلاماً واضحاً من حزب الله وايران أن ما اقترفه بعض رموز حماس مع الدولة السورية “كان خطيئة يصعب على الرئيس بشار الأسد أن يغفرها بسهولة”.

من هنا كانت فكرة تقليص دور مشعل (أبو الوليد) وإبعاده عن الصورة، ولو كان الجواب حينها أنها رغبة الرجل في الراحة من المسؤولية التي كان “الربيع العربي” أقساها وأصعبها عليه، لكن “رفاق الدرب” نفذوا فعلياً عملية تطهير شاملة لمجموعة حماس ـ الخارج، وقرّروا الإتيان بشخصية رمزية كإسماعيل هنية على رأس المكتب السياسي للحركة لتدشين مرحلة تاريخية جديدة قوامها فتح صفحة جديدة مع “محور المقاومة”، بعد فشل التعويل على “المحاور” الأخرى، وفشل الإخوان المسلمين بالإمساك بمصر وسوريا وتونس.. ولو جزئياً.

خطة لبنانية حمساوية

وما زاد هذه القناعة الراسخة أمران أساسيان:

أولاً؛ أن تركيا، وعلى الرغم من احتضانها لحماس قيادات ومؤسسات وأسرى مفرج عنهم وجمعيات خيرية وحقوقية، إلا أن ظروفها الداخلية بعد الانقلاب الفاشل صيف 2016 والانهيارات المالية وموجة العنصرية التي يتسم بها خطاب أحزاب المعارضة، كانت كافية لتقليص أي طموح للحركة بالتوسع في مشروع المقاومة، حتى لو كان جزء رئيسي من الشعب التركي متضامناً مع القضية والحركة والمشروع.

أما قطر التي تستضيف مشعل وهنية وغيرهما بطلب أميركي أفصحت عنه الدوحة مؤخراً، فلم تحتمل استضافة صالح العاروري إستجابة لضغوط دولية، إضافة إلى أن قطر هي دولة خليجية حريصة على مراعاة هواجس جيرانها الخليجيين مهما بلغ الخصام بينها وبينهم.

أما دول شرق آسيا وتحديداً ماليزيا، فليست بمساحة آمنة بعد اغتيالات طاولت خبراء عسكريين في “كتائب القسّام” على أراضيها، وخاصة أن الواقع السياسي في ماليزيا ليس واقعاً ثابتاً، بل يشهد تغيرات متسارعة في الإدارة السياسية للحكم مع تأثير أميركي فاعل في قرار عدد من دول شرق آسيا.

ثانياً؛ مع تمركز الشيخ صالح العاروري في بيروت، وفي عز حواراته مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وقائد “قوة القدس” في الحرس الثوري الإيراني الجنرال  قاسم سليماني، برز تطوران مهمان سيتركان بصمتهما في مسيرة حماس العسكرية، أولهما، نقلها من حاضرة في غزة كلياً وفي الضفة جزئياً، إلى الحضور في لبنان وسوريا (إذا تم ترتيب مصالحتها مع بشار الأسد).

الأكيد أن رمال لبنان المتحركة قادرة على إغراق أي طرف سياسي تخونه الحسابات، لكن الأكيد أن لبنان في ميزان حماس بات قاعدة استراتيجية، ومن يتابع أنشطة “طلائع طوفان الأقصى” يُدرك ذلك، في ظل شبه قرار بدعم الشقيقة اللبنانية، مالياً وعلى مستوى إيجاد صيغ للاعتراف بها في الداخل والخارج كفصيل لبناني وجوده لن يُغيّر في المعادلة القائمة

أما التطور الثاني فهو تعزيز مشروع بدأ الحديث عنه مع نهاية العام 2018 وهو “وحدة الساحات”، وهذا المشروع سوّقته حماس داخلياً على أنه مشروع المساندة الرئيسي في أي حرب مستقبلية؛ من هنا اتخذت حماس قرارها التاريخي بالانتقال إلى لبنان واعتبار لبنان جبهة مساندة وصراع استراتيجي مع العدو الإسرائيلي.

وهذا السقف الموضوع دفع بحماس لوضع خطتها اللبنانية، القائمة على العمل بصمت مطبق، حتى لو خرقته بعض التصريحات والممارسات والظهور المسلح، وليس اغتيال القيادي “القسامي” حمزة شاهين في كانون الأول/ديسمبر 2021 في مخيم البرج الشمالي إلا أحد الأثمان الطبيعية لإنشاء قاعدة مساندة للداخل الفلسطيني من بوابة الجنوب اللبناني ومخيمات الشتات الفلسطيني على أرضه.

عوائق وتحديات

ومع اقتناع حماس بأهمية وخصوبة البيئة اللبنانية كحاضنة للمقاومة الفلسطينية، برغم الأزمات التي عاشها الشارع السني اللبناني بعد “الربيع العربي”، سعت الحركة إلى فتح حوارات ورعاية مصالحات، فكان أن يمّمت وجهها باتجاه السفارة الفلسطينية في بيروت سعياً لإقناع حركة فتح بأنها تفصل بين الخلاف الداخلي وبين التنسيق الذي لا مناص منه في الخارج وخاصة في لبنان حيث يعيش الفلسطينيون أسوأ حقبة في تاريخهم في المنافي والشتات وخاصة مع انفجار الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان في خريف العام 2019، لذا وجب الحوار الداخلي، على قاعدة أن لا يُستثنى منه أي فصيل فلسطيني بما فيه فصيل القيادي الفتحاوي محمد دحلان بعد ترطيب علاقته مع زميل زنزانته السابق يحيى السنوار، إضافة لإظهار الحركة ليونة في خيار الانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية مستقبلاً.

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": أشباح لبنان 1982 تتكرر في غزة 2023!

لبنانياً، لا أزمة بين حماس وحزب الله، إلا أن “الأخت الشرعية” للحركة في لبنان، أي الجماعة الإسلامية، أنتجت الحرب السورية بينها وبين حزب الله أزمات وخلقت حواجز يصعب تجاوزها بلجان تنسيق مشتركة ووسطاء خير، من هنا كانت مبادرة العاروري لجمع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله مع الأمين العام للجماعة الإسلامية عزّام الأيوبي في لقاء السبع ساعات الشهير، والذي تكرّر لمرة ثانية بهدف خلق تحالف انتخابي في استحقاق 2022 ولكن لم يفضِ إليه لأسباب “سنية”.

من هنا خاضت حركة حماس معركة انتخابية أخرى في صيف العام 2022 لإيصال حلفائها إلى إدارة الجماعة وإجراء عملية “مسح” شامل لتيار الأيوبي – عماد الحوت – أحمد العمري، جرى تصويره على أنه ابعاد للقطريين والأتراك عن سدة الزعامة الإخوانية في لبنان، فيما الحقيقة المثلى أن الفريق الأول ليس بفريق تركيا وقطر، والفريق الآخر ليس بفريق ايران وحزب الله بشكل يستدعي الخوف؛ الأكيد أن حماس تمسك بالجماعة من القلب والعقل، بدليل التزاوج الميداني في قرى العرقوب الشاهد على كل المقاومات منذ احتلال فلسطين عام 1948.

وثمة أمر أساسي قالته القيادة السابقة للجماعة لشقيقتها حماس، بدأت معالمه تظهر في الميدان اللبناني، وهو أن لبنان ليس بيئة مناسبة لوجود حماس إلا في الشق التعبوي والثقافي والمطالبة بحقوق اللاجئين لتحسين معيشتهم ومنحهم حقوقهم الإنسانية، وأن هذه الأرض لها توازناتها الفجة وقواعدها الثابتة: المسيحيون وهواجس الوجود الفلسطيني المتحالف مع السنية السياسية، وحزب الله ومراعاته للواقع الداخلي ربطاً بحساباته الداخلية وتموضعاته الخارجية، والمسلمون السُنة ولا سيما أهل المدن الذين يميلون للاعتدال فطرياً ولا يُحبذون تاريخياً التسلح (وهذا ما أظهرته سنوات الأزمة السورية بالملموس).

لبنان في ميزان حماس

وثمة مفارقة اليوم أن الآية انقلبت، في ظل ما تسرّب من كلام بلسان مسؤول رفيع في حماس حين التقى قيادات إخوانية من جنسيات مختلفة، مشيراً أمامهم إلى “خطيئة الجماعة اللبنانية” بمشاركتها الرمزية في جبهة الإسناد التي فتحها حزب الله في الجنوب اللبناني، “لأن الثمن الذي سيُحصّله حزب الله والتسوية التي سيجبر الأطراف الداخلية والخارجية على القبول بها، لن تشمل فصيلاً إخوانياً صغيراً في الحجم والتأثير”، وأن هذه المشاركة “قد تفتح أبواب جهنم على التنظيم عربياً ودولياً، وقبل كل ذلك داخلياً في ظل نوع من العزلة السياسية التي يعاني منها التنظيم”.

الأكيد أن رمال لبنان المتحركة قادرة على إغراق أي طرف سياسي تخونه الحسابات، لكن الأكيد أن لبنان في ميزان حماس بات قاعدة استراتيجية، ومن يتابع أنشطة “طلائع طوفان الأقصى” يُدرك ذلك، في ظل شبه قرار حاسم في الحركة يقضي بدعم الشقيقة اللبنانية بكل السبل المتاحة، مالياً وعلى مستوى إيجاد صيغ للاعتراف بها في الداخل والخارج كفصيل لبناني وجوده لن يُغيّر في المعادلة القائمة.

Print Friendly, PDF & Email
صهيب جوهر

صحافي لبناني وباحث مقيم في مركز "أبعاد" للدراسات الإستراتيجية في لندن

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  مصالح باريس تتقدم على عواطفها.. الخيار الثالث يتقدم لبنانياً