“بيروت أند بيوند”.. مختبر موسيقي شبابي لا ينطفىء

لا يوجد شبه لبيروت في أي من مدن العالم. عاصمة نُكبت بإنهيار إقتصادي ومالي غيّر دورها ووظيفتها، فجاءت كورونا لتصيبها بمرض الإنعزال ولم يكن ينقصها إلا أن تُدمر بتفجير سوريالي غير مسبوق تاريخياً.

برغم هذه الصورة السودواية، ثمة زاوية في قلب هذه المدينة للفرح. هذا هو سرها. لذلك، قررت أنها لن تستسلم حتى تعود الروح إليها. “بيروت أند بيوند” مهرجان موسيقي يطوي عقده الأول في العام 2023. إنطلق من بيروت في العام 2013 وتعثر في السنتين الماضيتين قبل أن يُقرّر القيمون عليه أن يستمر ومعه وظيفته الأصلية المتمثلة في كشف المواهب الشبابية ودعمها.

يصح القول في هذا المهرجان إنه عبارة عن مشغل تجريبي. له هويته ولكنها هوية مرنة وقادرة على التكيف مع الإحتياجات والتطورات والأزمات. عالم الموسيقى هو عالم غني وحيوي وجذاب. له جمهوره ولكن ميزته أنه شبابي بإمتياز. مهرجان ينبش من “الأندر غراوند” undergroun. يدعم. يُقدم. يبني ويطوّر وينتج. تجربة إستفاد منها عشرات الموسيقيين على مدى سني المهرجان بتبني أعمالهم وإصدار ألبوماتهم والترويج لها.

“لا ينبغي أن نُخصّص وقتاً للموسيقى، لأنها عنصر هام للروح وتفتحها، مثلها مثل الغذاء والهواء للجسد”. هكذا إفتتح طارق يمني المهرجان في يومه الأول في قاعة ked في الكرنتينا. عندما وصلتني الدعوة قررت أن ألبيها بسرعة. هناك وجدت نفسي غريبة. وجدتني أعود إلى عشرينياتي.. وأنا أنتظر واقفة، موسم الموسيقى الجديدة التي تمزج التراث الشرقي بالجاز. موسيقى شابة تحاول أن تكتشف خلطتها الفنية الخاصة، والنتيجة تشهد عليها أجساد لم تهدأ طوال ساعات الحفلة.

في العادة، ما أن يضع الموسيقي آخر نوتة على الأسطر الخمسة مستنداً إلى مستودع إبداعه البشري حتى تبدأ رحلة من نوع جديد. مجموعة وافرة من الهواجس والعوائق تعتريه. كيف يُسجل نتاجه. كيف يُوزعه. كيف سيجد طريقه إلى الجمهور. هذا الجزء الهام من العملية الإبداعية هو صناعة حقيقية مرتبطة بالتمويل والسوق والعرض والطلب، ولها أصولها وقواعدها ومتطلباتها.

بشار خليفة: “أهمية مهرجان “بيروت أند بيوند” الإستثنائية تكمن في إهتمامه بأمور غير تجارية. لذلك، من المهم جداً دعم الموسيقى التي نصطلح على تسميتها بالبديلة”

في غالب الأحيان، يكون المبدع ولا سيما من فئة الشباب بلا خبرة وغير ضليع في عملية التمويل والدعم التي يبتعد عنها في أغلب الحالات، خجلاً أو جهلاً، وذلك مرتبط بطبيعة معظم المشتغلين في الفن الحقيقي.. ولذلك يلجأ هؤلاء إلى مدير أعمال يهتم بهذه التفاصيل.

في الدول الراقية تلعب الدولة دور الراعي للمواهب الشابة الفتية منذ الطفولة حتى ظهور معالم النبوغ، وتعتبرها من ثروات البلاد الطبيعية.

عندنا لا دور للدولة سوى بتيئيس الشباب ودفعه إلى الهجرة نحو دول تلتفت إلى مواهبه كرأسمال لا يُقدر بثمن. يكفي أن نراجع تجربة الكونسرفاتوار الوطني في السنتين الأخيرتين لنجد هجرة جماعية للمبدعين اللبنانيين وأيضاً الأجانب من فرقة المعهد الموسيقي الوطني.. وحتما لا أحد يلتفت إلى كيفية تدعيم هذا القطاع بتحريره من براثن وأمراض الطائفية من جهة ومده بالأوكسيجين الضروري حتى لا ينتهي العاملون فيه على الأرصفة يستجدون كسرة خبز. من هنا تنبع أهمية إقامة المهرجانات لتشكيل حلقة وصل فعّالة وراقية بين الفن والجمهور. إقامة ورش عمل تستنهض المواهب وتؤهلها دعماً وتسويقاً وتبادل خبرات، تصب حتماً في خدمة الموسيقى والإبداع.

لقد أثبتت الدراسات العلمية أن الموسيقى تستخدم في العلاجات النفسية. ويمكن الذهاب عميقاً إلى حد إدراج بند الموسيقى في خطط التعافي الحكومية لأنها السبيل إلى تنقية النفوس والنشء الجديد على أسس مختلفة ترقى بالفكر وتدفع إلى ممارسات حضارية.

قد يقول قائل ما هذه الطوباوية، وأين يمكن تسييل مثل هذه الأفكار في ظل أزماتنا المستعصية التي لا يمكن أن تدرجها في مقالة وقد استفحلت بهذه الطريقة.

وما هو بديهي في العالم الطبيعي، يرقى إلى أن يكون ترفاً فكرياً ينبغي لك تبريره وتسويغه للعموم في بلادنا الغارقة في آتون الجهل والفقر والحروب والديكتاتوريات.

إجمالاً يمكننا الإتكاء على مبادرات مشكورة من دول صديقة، مثل المبادرة النروجية التي أنشأت مهرجان “بيروت اند بيوند” وكان نصيبي مشاهدة بعض حفلات موسمه الختامية.

أماني سمعان، مديرة مهرجان “بيروت أند بيوند”، تقول:”المبادرة تهدف إلى تقديم الدعم للموسيقيين الذي يقطنون في لبنان، وتضرروا بسبب الأوضاع الاقتصادية وقيود كورونا، أو حتى بسبب انفجار بيروت”. وتكشف أنه تم قبول 100 طلب لفنانين يعيشون في لبنان، وجرى اختيار 20 من بينهم (10 فنانات و10 فنانين) يقدمون أنماطاً موسيقية مختلفة ومتنوعة. وتشدد على أن هدف المبادرة هو حث الموسيقيين على الانخراط مجدداً في الدورة الإنتاجية الخاصة بالموسيقى، بعد توقفهم لفترة طويلة.

وتم إصدار ألبوم “بيروت 20/21” على المنصات الموسيقية الرقمية، يضم 20 قطعة موسيقية جديدة، تظهر بشكل عام الظروف الصعبة التي مرّ بها لبنان في السنوات الأخيرة.

إقرأ على موقع 180  فلسطين المقاومة.. تعددت الطرق والهدف واحد

وتحتوي الأسطوانة على قطعات موسيقية تتحدث عن “نيترات الأمونيوم” المتعلقة بانفجار مرفأ بيروت، كما تتضمن أغانٍ رومانسية وأخرى حول الحياة اليومية.

في حفل الختام، عزفت يارا أسمر على آلة الميتالوفون فانتقلت أرواحنا إلى أجواء الموسيقى الآسيوية، موسيقى روحانية بإمتياز، كأنك في جلسة يوغا. الشاشة الخلفية تساهم في تثبيت الصورة بصرياً في سينوغرافيا من إبداع شباب متطوعين، قدّموا جهودهم بحماسة منقطعة النظير.

بداية جيدة للدخول في وصلة ميساء الجلاد التي قدمت لعملها الجديد عن المدينة وهواجسها.

تميزت لين أديب الفنانة المهجوسة بالإبتكار والتجديد بإرتجالاتها العفوية وبوقفة مسرحية كاريزماتية جذّابة، لعبت بالمقامات ومزجت الشرقي بالجاز وكان لها حضورها الآسر. هي السورية التي قذفتها الحرب إلى باريس، أحيت ليلة الختام كأفضل وأحسن ما يكون المسك

الجزء الأكبر كان للفنانة لين أديب وزيد حمدان ضمن فرقتهم “بدوين برغر”، ثنائي أضفى أجواء جميلة وفائقة المتعة بمزيج الجاز والغناء الشرقي موالات ومقامات في خلطة سحرية مدروسة. تميزت لين أديب الفنانة المهجوسة بالإبتكار والتجديد بإرتجالاتها العفوية وبوقفة مسرحية كاريزماتية جذّابة، لعبت بالمقامات ومزجت الشرقي بالجاز وكان لها حضورها الآسر. هي السورية التي قذفتها الحرب إلى باريس، أحيت ليلة الختام كأفضل وأحسن ما يكون المسك.

وكانت لين أديب قد أدت أغنية “شفة شفة” لبشار خليفة وهو احد الموسيقيين الداعمين للمهرجان من الكواليس. كان بشار واقفاً بخفره المعتاد وسط الحشد، يراقب المسرح بإعجاب. سألته عن رأيه في هذا الحدث فقال “علاقتي بالمهرجان بدأت في أواخر شباط/ فبراير 2020، قبل أن يقفل العالم أبوابه بسبب جائحة كورونا. أهمية المهرجان الإستثنائية تكمن في إهتمامه بأمور غير تجارية. لذلك، من المهم جداً دعم الموسيقى التي نصطلح على تسميتها بالبديلة”. من وجهة نظره “يكتسب المهرجان أهمية قصوى بدعمه فئة الشباب في شتى المجالات من المصور الفوتوغرافي، إلى فنان الغرافيتي، إلى مهندسي الصوت وليس فقط الموسيقيين والموسيقى على أهميتهم طبعاً”.

يُخطّط بشار خليفة لعمل فني جماعي، ويقول “طلبوا مني أن أكون عراباً لمهرجان يقام في فرنسا في مدينة بيلفور يدعى festival international des musiques universitaires (Fimu) وسوف أقوم باستقدام فرق شبابية لبنانية ومنحها فرصة الظهور وتقديم عملها في اوروبا، أمام جمهور جديد”.

لا بد من شكر مؤسسة “أوسلو وورد” والسفارة النروجية على دعم الموسيقى اللبنانية والعربية، لعل ذلك يمكننا من الإستمرار برغم كل شيء، في هذا اللاشيء.

الأشرار لا يغنون. لذلك لن نجدهم حيث يوجد غناء وفن. سهرة سعيدة.

Print Friendly, PDF & Email
أغنار عواضة

كاتبة وشاعرة لبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الفيدرالية في سوريا: الحل والتحديات