في سوريا، تفرض الهويّة المجتمعية والحضارية والتاريخية ذاتها في ميادين عدة، أبرزها الفنّ فتراه يقود ويجود والفكر يتّقد في أهله. الفنّ ليس أقل مرتبة من معارك يسبغونها بالوجودية. ما شوّهه التسليع في الإنتاج الدرامي في بيروت، وصل إلى الشام أحياناً لكنه ظل عابراً وظل الإبداع السوري علامة فارقة في الدراما العربية.
وفي وقت تكاد تنعدم مسلسلات وروايات الواقع والوجع الحقيقي المغمس بجروح الحرب الاهلية اللبنانية. وفي وقت لم يروِ أحد حتى يومنا هذا، تلك الأكذوبة المؤلمة التي هي حربنا الأهلية التي انتجت نظامنا الطائفي ولّادة واقعنا الصعب اليوم، فتكون النتيجة إنهياراً تلو إنهيار، ها هو الفن اللبناني مهدد بالموت لأن هناك من يُفضل دعم المافيات لا الإبداع والمبدعين.
في لبنان لم يقل أحد لي، ما كانت تعيشه جدتي عندما علّقوا اسم ابنها على ورقة المطلوب قتلهم في قريتها فهاجر هو وبقيت هي وانقطع التواصل بينهما لسنوات وسنوات. من الذي اوصل له سؤالها ومن الذي اعاده ومن الذي هجره مجددا. اوجاعنا الموروثة لم يروِها احد. الشاشة تخبرنا قصصاً خيالية عن بيوت لا تنقطع فيها مساحيق التجميل تحت القصف. وعن طنجرة حشيشة حلّت مشكل الاقتتال الطائفي بين الاسلام والمسيحية. نعم قصص الخيال تنال جوائز عالمية. أما بيروتنا الأحلى والأنضر والأجمل على وجه البسيطة فإنها تستحق كل اضواء الدنيا وانا لا احاول ان انتقص من قامات لبنانية نجت بنا من الكذب وابدعت من فنّ لبنان وكتابه أجمعين. انا اشكي واقعاً كلنا نعرفه. لا احد يروي عن مجتمع لبنان وتاريخه وناسه الا ما ندر.
لست اقارن، شامنا فيها ٧ ملايين و٧ ابواب وبيروت منارتنا البحرية. لا تتنافس الاخت مع أختها، بل تترابطا لتكونا. لا درب ولا حب اذا انقطع الرحم، وإبداع الشام هو ايضاً إبداعنا وهويتنا. وقصتنا المكتملة. تبيعنا مسالخ المال وتبيع هويتنا في بيروت.
أما في الشام، فان وجود هويّة وطنية حقيقية، يظهر في إصرار الفن وأهل الفن فيها على ألا يتشبهوا بأحد، او يستوردوا معلبات درامية من أحد، بل أن يكتبوا قصصهم هم. ليست صدفة أبداً. إنها الوطنية (قل القومية إذا شئت) الحقيقية الراسخة. انها معنى ان تكون سورياً من سوريا.
الحرب القاسية الموجعة، هذا العقد ـ النفق المظلم في سوريا، يقاومه المبدعون السوريون بملاحم دراميّة تاريخية، حتى لو كانت المنصات خارج سوريا. هناك من يصر على ان يروي لنا روايته الحقيقية. منتجون وكتّاب ومخرجون وممثلون ومبدعون آخرون واجهوا بلحمهم الحي وآمنوا بأنفسهم وتحدوا المطرقة والسندان معاً. تشبثوا بالأرض ولم ينقطعوا عن السماء. باسم ياخور، سلوم حداد، سلاف فواخرجي، فادي صبيح، شكران مرتجى، عباس النوري، صباح الجزائري، ريم حنا، صفاء سلطان، غسان مسعود، وائل زيدان، يامن الحجلي، علي وجيه.غيرهم وهم كثيرون. ما أروعهم.
ماذا بعد، لقد شاهدت مسلسل “على صفيح ساخن” العام الماضي وفيه يتجلّى ممثلون وممثلات من سوريا ويكتبون شهادة اجتماعية انسانية معاصرة وواقعية. أنصحكم بمشاهدته وهو موجود على العديد من المنصات. النص والإخراج والتمثيل والإنتاج يستدعي التحية. مؤلم وحكيم. هذا العام، يشوّقنا المخرج العريق نفسه سيف الدين السبيعي، سيف بن رفيق الشام، وهو من أعرق وأسمى من أخرج وروى حقبات دمشقية تاريخية بمسلسل “الحصرم الشامي” مثلاً. سيف الذي يعتزّ بأنه ابن أبيه معشوق سوريا الراحل رفيق السبيعي “أبو صيّاح” يتجلّى من ذاته بالإخراج. إرث أبيه هنا فنّ على فنّ وهويّة من هويّة.
هذه يا سادة عراقة سوريّا. تستحق الوقوف، طويلاً. وتأدية التحيّة.
كلّ قطعة سوريّة وصحفيّة مني كانت تنتظر مسلسل “مع وقف التنفيذ” الذي شاهدنا قصصه بالتتالي، في مقاطع بيوغرافية للإنسان السوري اليوم. يجسّدها ممثلون وممثلات. سوريون وسوريّات، نحبّهم ونثق بهم وبمواهبهم، وتروي قصة الرحيل والعودة والترك والرجوع والمرارة الكبرى التي هي هذه الحرب، والقوة العظمى التي هي هذا الشعب.
أنصحكم بمشاهدة هذا المسلسل. ستجدون أختاً أو أخاً. أماً أو أباً. ستجد أيها السوري الواقف على ظلّك أن هناك من يروي قصّة قلبك ويقول لك ختاماً كما في الفيديو في شارة المسلسل “لا تبكي!”
أختم بقول للراحل أنطون سعاده “في النَّفس السوريّة كلّ علم وكل فلسفة وكلّ فنّ في العالم”.