لهذه الأحياء التاريخية خصوصية مميزة. تجمع بين الروحاني المتمثل بمسجد “سيدنا الحسين”.. والمادي المتجسد بسوق خان الخليلي حيث تتوهج الأنوار ولمعان المعروضات من نحاسيات وزجاجيات.. والترفيهي في المقهيين المذكورين بالإضافة الى مطاعم ومقاهٍ عدة لا حرج عندها من نشر طاولاتها وكراسيها ومقاعدها الخشبية المتهالكة في منتصف الطرق لتقدم أنواعاً مختلفة من المأكولات والعصائر والحلويات المصرية واهمها الكباب وحلوى “ام علي” الخاصة باهل مصر.
الأجمل هو خليط شعبي متزاحم ينتشر في شوارع المنطقة وتفرعاتها، تستدل على تنوعه من ملابسه فذاك قادم من الصعيد بالجلباب وذاك قادم من حي الزمالك الراقي ببذته الانيقة، وبينهما سياح من جنسيات مختلفة ترطن بلغات ما انزل الله بها من سلطان لكثرتها.
لم تكن منطقة خان الخليلي هذه المرة كما عهدتها قبل سنوات، فساحة “سيدنا الحسين” تشهد حالياً ورشة ترميم وتجميل، لذلك كانت تعج بالجرافات والشاحنات التي تنقل التربة او مواد البناء وارضها موحلة في أماكن ومغبرة في اماكن اخرى، لكن زحمة البشر لم تتغير خاصة ان زيارتي هذه المرة تصادفت مع مباراة كرة قدم بين فريقي مصر والسنغال للتأهل لكاس العالم فازدادت زحمة الناس الذين احتشد الكثير منهم في المطاعم والمقاهي لمتابعة سير المباراة، وكان اللافت للإنتباه الحضور النسائي لمتابعة المباراة وفي هذا الحضور غياب الحجاب عن رؤوس غالبية الحاضرات.
نحاول انا وصحبي شق طريقنا باتجاه خان الخليلي فتعترضنا جرافة هنا وشاحنة هناك الى ان نصل الى مدخل الشارع حيث تتراصف مطاعم إنتشر النُدل العاملون فيها بين المارة لدعوتهم “تفضل يا باشا”، “تفضل يا بيه” “عندنا كباب وحمام واطيب ام علي”. ولا يخفى وجود متسولين يسألونك صدقة وشبه متسولين يعرضون عليك شراء محارم ورقية او علكة او ما شابه ناهيك عن نسوة متخصصات بالوشم بالحنة او غيرها من مواد التجميل.
ندخل شارع خان الخليلي بشق الانفاس لتبدأ رحلة المواجهة مع الباعة في الشارع، فهذا يناديك بالانكليزية، وهؤلاء أكثرية، وذاك بالروسية او الفرنسية ويقولون لك “لا تشتري.. تفضل اتفرج يا بيه”، وكلهم يبغي استدراجك، لأنك ما ان تدخل حتى تقع في مصيدة السؤال البديهي، “هل ببالك شيء معين تريد شراءه يا بيه؟” وان وقعت في مصيدة الإجابة تنهال عليك اشكال والوان من أغراض أعربت عن رغبتك بها لتنتقل بعدها الى المصيدة الأكبر وهي السعر الذي ستدفعه.. وعادة ما يكون ثلث قيمة المبلغ الذي يطلبه البائع والا تكون قد اشتريت غرضك بثلاثة اضعاف ثمنه. وما يشجعك على الشراء هو أسلوب البائع عندما تعرب عن استهجانك للمبلغ الذي طلبه، فيقول لك “طيب انت حتدفع كام، انا قلتلك عايز كام وانت لازم تقولي لي حتدفع كام، وانا انقص شوية وانت تزيد شوية ونتفق يا فندم”. وبطبيعة الحال “الشوية” التي ستنقص تكون بالفعل “شوية” اما ما تطرحه انت ولا يعجبه فإنه يسارع الى تقديم حل “يرضي الطرفين” وهو قسمة الفارق بين سعر البائع وسعر الشاري بالنصف فيكون الشاري قد دفع ضعفي ثمن الغرض بدل الاضعاف الثلاثة!
نتجه الى مقهى نجيب محفوظ، في اخر شارع خان الخليلي فنكتشف انه كان يجب ان نحجز طاولة قبل يوم او يومين وبالتالي لم نحظ بالدخول فعدنا الى مقهى الفيشاوي في اول الشارع؛ رواد المقهى يتحلقون حول طاولات قديمة امام المقهى وسط عازف عود واخر على الطبلة يؤديان مع المغني الشاب ما تيسر من ألبومات الأغاني القديمة لأم كلثوم وسيد مكاوي، ولكن بسبب الضجيج في الشارع يصعب تمييز صوت المغني هل هو جيد أم رديء وكذلك الامر مع العازفين.
فضلنا الجلوس داخل المقهى هرباً من الضجيج، وبطبيعة الحال كان يبدو علينا اننا سياح، لذلك بدأت تتقاطر علينا قوافل الباعة المتجولين واولهم بائع كتب إصطحب معه أكثر من خمسين كتاباً تراكموا فوق بعضهم البعض من ركبته الى أسفل أنفه. ثم كرت سبحة راسمة الأوشام، بائع المحارم، متسولة تحمل ابنتها الطفلة، بائع المسابح، بائع الحلى، في سلسلة باعة لا تنتهي ومن دون أي احتجاج من إدارة المقهى التي حذّرت روادها مُسبقاً بعبارة “المقهى غير مسؤول عن الممتلكات الخاصة للزبائن”، في إشارة إلى وجوب الانتباه من ظاهرة النشل المستفحلة في هذه الأحياء المكتظة. ولعل أطرف ما لفت نظرنا خلال تلك الجلسة إمرأة محجبة ترتدي ثياباً ضيقة تُبرز تفاصيل جسدها لكنها محجبة بمنديل أسود وهي ترقص على إيقاع الطبلة بهز خصرها وترجيف جسدها بطريقة اين منها سامية جمال في عز مجدها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
خلال تبادلنا أطراف الحديث كان بعض الحاضرين يظن ان مقهى الفيشاوي هو لعائلة الممثل المشهور المرحوم فاروق الفيشاوي فشككت بالموضوع وسألت مدير المقهى عن الأمر ليكشف لنا أن هذا المقهى تأسس عام 1710 وبقي في تداول عائلة الفيشاوي على مدى اكثر من سبعة أجيال وان عدداً من المرايا في المقهى هي من قصر الملك فاروق وتقدمة منه شخصياً اذ ان المقهى يعرض صورة للملك، وهو جالس على احد المقاعد فيه. وعلى الرغم من عراقة هذا المقهى وكبار السياسيين والفنانين والمثقفين الذين زاروه فانه يحافظ على هويته الشعبية بكل معنى الكلمة بأرضه غير النظيفة وطاولاته وكراسيه المتهالكة وإكسسواراته المعتقة.
وحدهم عمال المقهى يتغيرون مع مرور الأيام، ولكن القاسم المشترك بينهم تلك الطيبة العميقة المتأصلة والطرفة الحاضرة التي يتمتع بها معظم أبناء الشعب المصري.