هنا في مرج الزهور.. عماد مغنية “يكتشف” يحيى عياش (81)

يواصل الكاتب رونين بيرغمان في هذا الفصل من كتابه "انهض واقتل اولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية" رواية تداعيات عملية ابعاد قيادة حماس من الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى منطقة مرج الزهور في الجنوب الشرقي للبنان في 17 كانون الأول/ديسمبر 1992.

يقول رونين بيرغمان ان عملية الابعاد “وجّهت ضربة جدية لحركة حماس في تلك اللحظة، فالقائدان الكبيران الشيخ احمد ياسين وصلاح شحادة كانا في احد السجون “الإسرائيلية” وباقي قادتها أصبحوا الآن يعيشون حالة بائسة في خيم رطبة ضمن مخيم اقيم على اطراف تلة باردة في مرج الزهور الى حد التجمد، من دون كهرباء او اي وسيلة تواصل. ولكن هذا الوضع تغير جذرياً بعد أسبوع واحد فقط من الإبعاد عندما قامت مجموعة من اللبنانيين بزيارتهم، وقدّم قائد هذه المجموعة نفسه للمبعدين على انه يدعى وفيق صفا من حزب الله حيث قام بتحية المبعدين نيابة عن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وسألهم ان كانوا بحاجة لأي مساعدة. وقد جاءت هذه الزيارة بعد سلسلة اجتماعات عقدها نصرالله مع كل من الحرس الثوري الإيراني وعماد مغنية ووفيق صفا الذي كان اشبه ما يكون بوزير خارجية حزب الله. في تلك الاجتماعات، نظر مغنية الى عملية الابعاد على انها هبة من الله ووفق تفكيره ان حزب الله كان قادرا ويجب عليه ان يستغل الفرصة لتوسيع نفوذه خارج الحدود اللبنانية مع شركاء لم يكونوا بالضرورة إيرانيين او شيعة وقد نجح باقناع الآخرين بذلك”.

أقام رجال عماد مغنية بقيادة صهره مصطفى بدرالدين مع مدربين اخرين من فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني منطقة محروسة جيدا قرب معسكر مخيم مرج الزهور ولكن بعيدة بما يكفي لابعاد العيون الفضولية لوسائل الاعلام التي باتت حينها تغطي بصورة متواصلة الحياة في المخيم

يتابع بيرغمان “لم يكن المجاهدون الشيعة كقاعدة عامة يقيمون تحالفات مع الفلسطينيين المسلمين السنة، لذلك فقد شكلت زيارة المجاملة التي قام بها وفيق صفا مفاجأة للمسلمين السنة في حماس التي كانت ايضاً حينها مترددة مبدئياً لان هذا التواصل غير طبيعي، ولكن المأزق الذي كانوا يعيشونه كان حاسماً وهم يتشاركون الكراهية لعدو مشترك لذلك كان جوابهم لحزب الله ايجابياً، وفي غضون وقت قصير بدأت قوافل البغال والحمير تنقل اليهم خيماً مضادة للماء وثياباً دافئة ومدافىء ومحروقات بالاضافة الى كميات كبيرة من الطعام ومواد التنظيف ومواد اخرى تقيهم طقس الشتاء القاسي. وجاءت الخطوة التالية من وسائل الاعلام اللبنانية التي كان البعض منها يخضع لنفوذ حزب الله والبعض الاخر وجد في الموضوع مادة اعلامية جيدة، وبعدها جاء مدربون على اعمال “الارهاب”. حتى ذلك الحين لم يكن لحماس تقريبا اي تدريب على العمليات القتالية او الاستخبارية، وفي هذا الاطار، فقد كانت عملية الابعاد بمثابة هبة من الله. فقد أقام رجال عماد مغنية بقيادة صهره مصطفى بدرالدين مع مدربين اخرين من فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني منطقة محروسة جيدا قرب معسكر مخيم مرج الزهور ولكن بعيدة بما يكفي لابعاد العيون الفضولية لوسائل الاعلام التي باتت حينها تغطي بصورة متواصلة الحياة في المخيم، وفي هذه المنطقة، اقيمت دورات تدريبية على وسائل الاتصال والتشفير والامن في الميدان والاسلحة الخفيفة واطلاق الصواريخ والتجسس ومكافحة التجسس وحرب الشوارع والقتال الجسدي وغيرها من الامور”.

يواصل بيرغمان روايته: “أعجب مدربو مغنية بصورة خاصة بمهندس كهربائي يبلغ من العمر 28 عاما من شمال الضفة الغربية المحتلة وهو خريج جامعة بيرزيت يدعى يحيى عياش الذي اصبح في ما بعد يطلق عليه لقب “المهندس”. وقد علّمه خبراء حزب الله وإيران (في مرج الزهور) كيف يصنع بصورة بدائية المتفجرات من مواد محلية بالامكان شراءها بسهولة من الاسواق، وكيف يصنع ادوات تفجير صغيرة ولكنها قاتلة باستخدام المسامير والبراغي وبقايا شظايا وكيف يتم تفخيخ السيارات، واتى مغنية شخصياً الى المخيم للتحدث مع عياش وبعض رفاقه في كيفية انتقاء الانتحاريين المحتملين وكيفية تجنيدهم وكيفية مقاربتهم وكيفية اقناعهم للقيام بهذا العمل، وهي المرحلة الاصعب في التجنيد. وهكذا وفي ما كان رجال الشيخ ياسين يتدربون في منطقة جبلية نائية كانت عملية اعادة بناء منظمته تجري في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، وبمرور السنوات تمكنت حماس من بناء شبكة واسعة لجمع التبرعات في دول الخليج “الفارسي” والاردن والولايات المتحدة تحت قيادة المواطن (الفلسطيني) الامريكي موسى ابو مرزوق. وهكذا فقد موّل المنظمة شيوخ سعوديون اغنياء مع نظراء لهم من الامارات ورجال اعمال اغنياء في الغرب. وبعد عملية الابعاد ارسل ابو مرزوق احد مساعديه في الولايات المتحدة ويدعى محمد صلاح الى الاراضي المحتلة مع مئات الآلاف من الدولارات النقدية”.

أعجب مدربو مغنية بصورة خاصة بمهندس كهربائي يبلغ من العمر 28 عاما من شمال الضفة الغربية المحتلة وهو خريج جامعة بيرزيت يدعى يحيى عياش الذي اصبح في ما بعد يطلق عليه لقب “المهندس”. وقد علّمه خبراء حزب الله وإيران (في مرج الزهور) كيف يصنع بصورة بدائية المتفجرات من مواد محلية بالامكان شراءها بسهولة من الاسواق

في غضون ذلك، يضيف بيرغمان، “كان الضغط الدولي يتصاعد على “إسرائيل”، فالتغطية الاعلامية لمخيم المبعدين كانت متواصلة، ووصلت الى حد التهديد بالادانة القاسية لـ”إسرائيل” في مجلس الامن الدولي بسبب عملية الابعاد مرفقة بالتهديد بالعقوبات ومع كل ذلك بدأت مواجهة غير معلنة مع ادارة الرئيس الاميركي الذي تولى منصبه حديثاً بيل كلينتون ووزير خارجيته وارن كريستوفر. وفي فبراير/شباط عام 1992، رأى (رئيس الوزراء اسحاق) رابين ان العملية برمتها كانت خطأ كبيرا فوافق على اقتراح كريستوفر باعادة عدد من المبعدين فوراً فيما تتم إعادة الباقين مع نهاية العام مقابل ان تمارس اميركا حق النقض الفيتو في مجلس الامن الدولي لمنع ادانة “إسرائيل”. فعاد المبعدون الى قطاع غزة والضفة الغربية عودة المنتصرين وتم تعيين يحيى عياش قائدا لكتائب عزالدين القسام (الجناح العسكري لحماس) في الضفة الغربية، وبعدها بوقت قصير، نظّم عياش عملية التفجير الانتحاري في منطقة “محولا” في ابريل/نيسان عام 1993 حيث قتل “الانتحاري” ومدني اخر، اما بالنسبة للهجوم التالي فقد كان على عياش ان ينتظر لحظة محددة ولامر ما يجعل من التفجير الانتحاري عملا مشروعا في نظر الفلسطينيين. وقد جاءته هذه اللحظة في 25 فبراير/شباط عام 1994 عندما قام الدكتور باروخ جولدشتاين (مولود في مدينة بروكلين الاميركية، وهو حاخام يتبع للحاخام الاكبر مائير كاهان ورابطة الدفاع اليهودية وكان قد هاجر من اميركا الى مستعمرة كريات اربعة قرب مدينة الخليل)، بفتح نيران رشاشه على المصلين المسلمين في المسجد الابراهيمي التابع للمدينة والواقع قرب “كهف البطريرك”، وهو الموقع الذي يعتبر اتباع الديانتين ان النبي ابراهيم دفن فيه. وخلال دقيقة ونصف الدقيقة من اطلاقه النار من رشاش “جاليلو” الذي يستخدمه الجيش “الإسرائيلي” وهو بلباس الجيش “الإسرائيلي” تمكن من تغيير اربعة مخازن للرصاص، عندها قام احد المصلين بضربه باطفائية فرماه ارضا وانقض بعدها المصلون عليه وواصلوا ضربه حتى الموت ولكن قبل ذلك كان قد تمكن من قتل 29 مصلياً وجرح اكثر من مئة آخرين. وقد نظر الى هذا العمل في أنحاء العالم الإسلامي ليس كجريمة لا تغتفر ضد ابرياء عزل بل ايضا بمثابة اعلان حرب من اليهود على الاسلام نفسه.

إقرأ على موقع 180   إسرائيل بمواجهة مأزق الضفة: "السلطة" أم عملية عسكرية؟

ووفق رواية بيرغمان، “كانت تلك اللحظة هي التي ينتظرها عياش، فقد صبر حتى مرور فترة الحداد المحددة باربعين يوما قبل ان يوجه ضربته، وفي السادس من ابريل/نيسان قام انتحاري جنّده عياش نفسه بتفجير نفسه على مقربة من حافلتين في بلدة “عفولة” شمال الضفة الغربية ما ادى الى مقتل ثمانية مدنيين بالاضافة الى الانتحاري نفسه، وبعدها باسبوع واحد قام انتحاري بتفجير نفسه في محطة حافلات في منطقة “هديرا” فقتل خمسة “إسرائيليين”، وفي 19 اكتوبر/تشرين الاول ضرب عياش في قلب تل ابيب حين فجر انتحاري حزاما ناسفا كان يرتديه بالحافلة رقم خمسة في شارع ديزنغوف فقتل 22 “إسرائيليا”، وهكذا تواصلت التفجيرات”.

وهنا ينقل بيرغمان عن مسؤول “الشين بيت” آفي ديختر قوله “حتى ذلك الحين كنا معتادين على ان الإرهابيين الفلسطينيين يعشقون الحياة، وحتى ليلى خالد في آخر عملية خطف طائرات نفذتها كانت تحمل قنبلتين يدويتين بيديها عندما واجهها ضابط الامن الإسرائيلي بمسدسه لم تملك الجرأة لتفجير نفسها، ان التغيير الذي حصل في العام 1993 كان جذريا وهذا ما فاجأنا. لقد نمت قدرات الارهابيين فوق التصور فالمفجر الانتحاري لم يكن بحاجة الى مهارات ميدانية، انها فقط كبسة زر واحدة، توقيف وتشغيل. وعندما يكون هناك 400 مفجر انتحاري على لائحة الانتظار لتنفيذ عملياتهم باستطاعة اي كان ان يرى عمق المشكلة”.

في طريق عودته الى تل ابيب كان رابين غاضبا و”الدماء تغلي في عروقه”، بحسب قول رئيس مكتبه ايتان هابر، فدعا الى اجتماع عاجل لكل قادة اجهزة الدفاع، وقال لهم “يجب ان يتوقف هذا الجنون، آتوني بالصفحات الحمراء لكي أوقعها

يقول رونين بيرغمان إن منافسي يحيى عياش “لاحظوا نجاحه والدعم الذي بات يلقاه في الشوارع الفلسطينية، فقام مفجر انتحاري من حركة الجهاد الاسلامي في 11 نوفمبر/تشرين الثاني بتفجير نفسه في موقع للجيش “الإسرائيلي” عند تقاطع نتزاريم في قطاع غزة فقتل ثلاثة ضباط احتياط، وفي 22 يناير/كانون الثاني 1995 قام احد “ارهابيي” حركة الجهاد الاسلامي متنكرا بزي الجيش “الإسرائيلي” بالتسلل الى وسط تجمع للجنود كانوا ينتظرون الحافلة في منطقة بيت ليد على بعد 25 ميلاً (حوالي 40 كيلومتراً) شمال شرق تل ابيب وفجر اكثر من 22 رطلاً (حوالي عشرة كيلوغرامات) من المتفجرات كان يرتديها فوق جسده فحوّل العشرات من الجنود الى اشلاء من شدة الانفجار، وفيما ركض اخرون لمساعدة المصابين قام انتحاري اخر بتفجير نفسه وسطهم وكان يفترض ان يقوم انتحاري ثالث بتفجير نفسه لكنه ضعف امام الامر وفرّ بعيداً. أدى هذا الهجوم الى مقتل 21 جندياً ومدنياً واحداً فيما أصيب 66 جندياً آخر بجروح بينهم العديد من الجروح البالغة، وبعد وقت قصير من الهجوم جاء رئيس الوزراء وزير الدفاع حينها اسحاق رابين الى موقع التفجير وكانت بقايا الاشلاء والملابس المبقعة بالدماء لا تزال تغطي المكان فواجه تظاهرة عفوية لمدنيين غاضبين كانوا يتقاطرون الى المكان، ولم يكن المتظاهرون يهتفون ضد الارهاب بل ضد رابين قائلين له “اذهب الى غزة”، وهي لعنة باللغة العبرية تشبه القول “اذهب الى الجحيم”. وفي طريق عودته الى تل ابيب كان رابين غاضبا و”الدماء تغلي في عروقه”، بحسب قول رئيس مكتبه ايتان هابر، فدعا الى اجتماع عاجل لكل قادة اجهزة الدفاع، وقال لهم “يجب ان يتوقف هذا الجنون، آتوني بالصفحات الحمراء (وثائق تتضمن الامر بعمليات اغتيال ضد اشخاص محددين) لكي أوقعها”.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  كتاب بيرغمن عن إغتيالات "الموساد": تغيير مجرى التاريخ (2)