من مرايا المآسي إلى قانون البقاء: التعدديّة السورية عبءٌ أم رصيد؟

منذ أن انهار النظام السوري قبل نحو سنة، لم يعد المشهد السياسي محصورًا في معادلة سلطة ومعارضة، بل انفتح على امتحانٍ وجودي يطال معنى الدولة نفسها: كيف تُدار فسيفساء من الطوائف والقوميات واللغات من دون أن تتحوّل إلى وقود انتقام أو إلى حدودٍ مُسيّسة متنازَعة؟

المكوّناتُ السورية التي طالما عاشت بين اندماجٍ حذر واتّكاءٍ على توازنات الأمن، وجدت نفسها فجأة بلا مرجع ضامن. العلويون يحملون عبءَ صورةٍ نمطية ربطتهم بإرث السلطة ويخشون أن تُتَّخذ ذريعةً لعقابٍ جماعي. الأكراد، وقد بلوروا مشروعًا سياسيًا–إداريًا في الشمال الشرقي، يطالبون باعترافٍ صريح بالهوية وحقّ إدارة الشأن المحلي ضمن الدولة. والدروز طرحوا خيار الانفصال باعتباره ضمانة أمن–قرار بعد جولتين من العنف أجهضتا إرادة مشاركةٍ كانت تتبلور. والمسيحيون وسائر المكوّنات الأصغر يبحثون عن ضماناتٍ تُخرج وجودهم من خانة «التراث» إلى خانة «المواطنة الحيّة» في ظل تفاقم ظاهرة هجرتهم إلى الخارج. هنا لا تكفي الحلول التقنية ولا الشعارات العامة؛ لا بد من قراءةٍ لمرايا الآخرين، لا لاستنساخها، بل لاجتراح خطوط تحذير وإلهام.

في رواندا، حين اغتيل رئيس الهوتو في نيسان/أبريل 1994، انفجرت الكراهية المكبوتة وتحول التوتسي-الأقلية التي رُبطت بالسلطة بدعمٍ استعماري-إلى كتلةٍ مُدانة تُستباح. خلال مئة يوم، قُتل ما يقارب المليون إنسان. لم تُحاكَم الأفعال بل الهويات. وعندما دخلت الجبهة الوطنية بقيادة بول كاغامي إلى العاصمة الرواندية، عادت الأقلية إلى الحكم بالقوة، وبقي جرح الإبادة حاضرًا في الذاكرة والشرعية السياسية. ويطلّ هنا وجهُ شبهٍ سوريّ يستبطن مخاوف ملموسة: فكرة «الحاضنة» التي تختزل العلويين كتلةً مسؤولةً عن أفعال السلطة، واحتمالُ انزلاقها إلى منطق عقابٍ جماعي. غير أنّ الفروق حاسمة: لا أغلبية سورية متراصّة على مثال الهوتو، ولا مشهدَ داخليّاً معزولاً عن تشابكاتٍ إقليمية ودولية كثيفة. ومع ذلك، يبقى الخطر قائمًا: إن لم تُفصل المسؤولية عن الهوية، انقلب الانتقال صراعًا مفتوحًا.

التعدديّة إمّا تُدار بقواعد عادلة ومؤسّسات موثوقة، فتتحوّل إلى مورد قوّة، وإمّا أن تُترك للغرائز والخرائط المرتجلة، فتتداعى إلى خصومةٍ دائمة. معيار السلامة بسيطٌ وعسيرٌ معًا: مسؤوليةٌ فرديّة لا جماعيّة، عقدٌ وطنيٌّ يسبق أيّ ترسيمٍ للصلاحيات، حمايةٌ فاعلة لا رمزيّة، وترتيباتٌ لتوزيع الصلاحيات تُبتّ دستوريًّا بمشاركةٍ واسعة ويُقاس أثرُها بقدرتها على صون وحدة الدولة وحقوق مواطنيها

الجسر القصير

وإذا كانت رواندا قد كشفت فداحة العقاب الجماعي، فإن بوروندي أظهرت الوجه الآخر: كيف يمكن لجسر هشّ من التوازن أن يؤجّل الانهيار. فبعد صراع دموي شبيه، جاءت اتفاقية أروشا عام 2000 جسرًا فوق وادٍ من الدم: إعادة تشكيل الجيش بالمناصفة، إدخال خصوم الأمس إلى الحكم، وضمانات دستورية تكبح الاستئثار؛ لم يكن حلًا نهائيًا، لكنه منع الانهيار وأعطى الزمن فرصة لترويض الخوف، وهو ما قد يُلهِمَ عنصراً هاماً في أي معادلة انتقاليةً: إشراك المكوّنات في مؤسسات الدولة، وتمثيلٌ محسوس في الجيش والسلطات، وضماناتٌ قانونيةٌ تُخفّف القلق، على أن يبقى ذلك جسرًا قصيرًا لا بيتًا دائمًا يُجمّد الهويات في حصص أبدية. الجسر ينبغي أن يقود إلى مؤسسات جامعة، لا إلى محاصصة أزلية.

ومن صورة الجسر الهشّ ينقل لبنان التجربة إلى صورة المحاصصة الراسخة. منذ الميثاق الوطني 1943، نُسجت معادلة دقيقة تحمي المكوّنات من الخشية على وجودها، لكنها شلّت الدولة في لحظات القرار والإصلاح. بعد اتفاق الطائف عام 1989، خسر الموارنة هيمنةً تاريخية وصاروا شركاء، فيما تمدّدت أذرع الخارج عبر بوّابات الاصطفاف الطائفي. في هذا النموذج، قد تمنح المحاصصة ضمانات مرئية للمكوّنات، لكنها إن صارت «هوية النظام» بدل «جسر اطمئنان»، تحوّلت السياسة إلى إدارة تعطيل متكررة لا صناعة حلول مستدامة. فالمحاصصة قد تكون إسعافًا مؤقتًا، لكنها لا تصلح قاعدة دائمة لدولة تريد إعادة بناء مؤسساتها واقتصادها.

التعددية قوة أم ضعف؟

وإذا كان لبنان قد قدّم نموذج الحماية بالمحاصصة، فإن العراق كشف هشاشة الاعتراف الدستوري حين لا تحرسه مؤسسات. بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، صاغ الدستور الجديد اعترافًا بالتعدّد، لكن الأقليات الأصغر تُركت في مهبّ العنف: تقاسمٌ بين قوى شيعية وسنيّة وكرديّة، وتآكل حضور المسيحيين، وإبادةٌ للإيزيديين، وتبدّدٌ لجماعات تاريخية كالمندائيين. الاعتراف كان على الورق، غير أن آليات الحماية كانت غائبة. تُظهر التجربة العراقية أن نصّ المساواة وحرّية المعتقد لا يكفي ما لم تُبنَ حماية ملموسة: أمنٌ محلي سريع الاستجابة، قضاءٌ مستقل قادر على ردّ المظالم من دون وساطة السلاح، وتمثيلٌ سياسي ذو أثر لا تمثيلًا رمزيًا محضًا. فالنص بلا حارس يُفضي إلى نزيفٍ ديموغرافي صامت، وهو نزيف قد يتهدد المكوّنات السورية الأصغر إن لم تُبنَ آليات حماية فعلية.

وتبقى يوغسلافيا درسًا في أن الفيدرالية ليست صكّ نجاة ولا خطيئةً أصلية؛ إنها أداة تنظيم قد تنجح أو تفشل. بعد غياب الرئيس تيتو وانهيار المعسكر الاشتراكي، تمدّدت القوميات وتحولت الفيدرالية إلى قشرةٍ واهيةٍ فوق حُمَم الهويات، فتفككت الدولة إلى حروب وكيانات وتعرّضت المكوّنات لتطهيرٍ وتهجير. تُظهر التجربة اليوغسلافية أن طرح الفيدرالية أو الحكم الذاتي ليس «محرّمًا» ولا «وصفة خلاص»؛ بل يمكن أن ينجح حين يستند إلى عقدٍ دستوري جامع ومؤسساتٍ قضائية وأمنية مشتركة وهويةٍ سياسية جامعة، ويفشل حين يُستدعى لتعويض دولةٍ غائبة أو لتثبيت حدود الهويات.

إقرأ على موقع 180  إنفجار بيروت بعيون تل أبيب: إبعاد الحرب أم إقترابها؟

في الخلاصة؛ ليست تلك التجارب مرايا تُحاكي تفاصيلنا بقدر ما تُلخّص قانونًا واحدًا: التعدديّة إمّا تُدار بقواعد عادلة ومؤسّسات موثوقة، فتتحوّل إلى مورد قوّة، وإمّا أن تُترك للغرائز والخرائط المرتجلة، فتتداعى إلى خصومةٍ دائمة. معيار السلامة بسيطٌ وعسيرٌ معًا: مسؤوليةٌ فرديّة لا جماعيّة، عقدٌ وطنيٌّ يسبق أيّ ترسيمٍ للصلاحيات، حمايةٌ فاعلة لا رمزيّة، وترتيباتٌ لتوزيع الصلاحيات تُبتّ دستوريًّا بمشاركةٍ واسعة ويُقاس أثرُها بقدرتها على صون وحدة الدولة وحقوق مواطنيها. ما عدا ذلك زيادةٌ في الألم لا في الحكمة؛ أمّا إذا التُزِمت هذه القواعد، فإنّ التعدديّة السورية قد تتحوّل من عبءٍ إلى رصيد، ومن هشاشةٍ إلى مصدر قوّة، وإن أُهملت فلن يبقى سوى إعادة إنتاج المآسي بألوان محلية أكثر قسوة.

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله سليمان علي

كاتب وصحافي سوري، وباحث في شؤون الجماعات الإسلامية

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  دستور أحمد الشرع: الرجل الواحد، الفاتح.. "البونابرتية السورية"!