هي أزمة خطاب سياسي، تُعبر عن حالة انفصام مزمنة عن الواقع، فالأحزاب والقوى اللبنانية تتناسى أن الشعب اللبناني، وبرغم تعايشه على مدى عقود من الزمن مع الإستعباد، إلا أنه شعب مفطور على الحرية، وبالتالي هذه الزعامة أو تلك؛ هذا الحزب أو ذاك، ومهما اختلفت التسميات، ليست قدرا. الثابت هو الجغرافيا والناس وما عدا ذلك يبقى قابلاً للتغيير. هذه سنة التاريخ.
يستحضرني موقف سبق ان اطلقه العلامة المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله، في حفل افطار اقامته “جمعية المبرات الخيرية” في شهر رمضان (8 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2002) وكان لي الحظ بالحضور والاستماع. وقتذاك، تناول السيد فضل الله قضية الفكر والتفكير والخطاب، ويومها دوّنت أبرز ما قال وجعل الحضور ينصت حابساً أنفاسه:
“نحن الذين نعتبر انفسنا خطأ او صواباً، في مواقع القيادة وفي مواقع المسؤولية في الدين والسياسة والاجتماع، نحن نخاف من الناس ان يفكروا، ولذلك نمنعهم من التفكير، ونقول لهم نحن نقدم لكم الفكرة جاهزة مطبوخة، فلا تزعجوا انفسكم في اختيار مفردات السياسة والاجتماع (…)، وتعودنا على السياسية المطبوخة وعلى الدين المطبوخ، وعلى الاجتماع المطبوخ، وعلى الفكر المطبوخ، لكننا لم نتعلم الطبخ. لذلك، عملنا ونعمل على ان يكون هناك شعب يصفق وشعب يهتف، وان يكون هناك شعب ينافق، لقد علمنا الشعب النفاق، لانه يخاف اذا لم ينافق معنا فسوف يفقد كثيراً من الامتيازات عندنا وسيفقد وظيفته او موقعه (…)، اصبحنا نخاف من الحقيقة ان تتحدانا وان تبعدنا عن مواقعنا، واصبحنا نخاف من النقد، واصبح النقد عندنا عداوة، ممنوعٌ ان تنقد وممنوعٌ ان تحلل خطاً سياسياً او اجتماعياً، ممنوعٌ ان تُبدع فكراً جديداً، لان الكثيرين من الذين يحيطون بك ينطلقون من موقع تخلّف ذهني ليكفّروا فكرة هنا وليضللوا فكرة هناك، وليخوّنوا انسانا هنا وليقمعوا كلمة هناك. ليس من الضروري ان يكون قمع السلاح، ولكن قمع الموقف وقمع الواقع هو الذي يمنع المفكر ان ينطلق بالحرية”.
لو كان السيد فضل الله ما يزال معنا اليوم وفكره ينمو ويتعاظم ويكبر، ماذا كان ليقول عن الشعب المتروك لقدره يموت قهرا وحسرة وحتى جوعا؟ ماذا عساه يقول عن ثقافة التدمير لكل البنيان الوطني؟ وعن مواكب الشباب اللبناني الذي جعل وجهته كل جهات الارض الا جهة الوطن بعدما سدّت كل الابواب والافاق في وجهه؟.
فضل الله: لقد علمنا الشعب النفاق، لانه يخاف اذا لم ينافق معنا فسوف يفقد كثيراً من الامتيازات عندنا وسيفقد وظيفته او موقعه (…)، اصبحنا نخاف من الحقيقة ان تتحدانا وان تبعدنا عن مواقعنا، واصبحنا نخاف من النقد، واصبح النقد عندنا عداوة، ممنوعٌ ان تنقد وممنوعٌ ان تحلل خطاً سياسياً او اجتماعياً، ممنوعٌ ان تُبدع فكراً جديداً
نقول مع “السيد” الذي استراح من هم الدنيا وغمها، ان الخوف من الناس ان تفكر صار وراء ظهرنا، حتى الفكرة الجاهزة التي كانوا يقدمونها للناس على تفاهتها شطبت من قاموسهم، ولم تعد هناك من سياسة مطبوخة جاهزة لان الوطن اصبح متروكا بالكامل، ولم تعد هناك حاجة لهتاف الشعب وتصفيقه ولا الى تعليمه النفاق، بعدما حوّلوه الى مجرد سمكة في بحيرة مذهبية آسنة يختنق ان بقي فيها او خرج منها، وجلّ ما يريده ان يتنفس لا ان يقضي مختنقا وحيدا بلا معين، اما من قادوا الشعب والبلد الى الهلاك فقد طوروا تخلّفهم وحولّوه الى اجرام عن سابق تصور وتصميم، ومن يجرؤ على امتشاق سلاح الموقف مصيره ان يُقذف بأبشع ما لا يمكن ان يتصوره عقل بشري من نعوت وشتائم عبر ذباب الكتروني نجّاك الله يا “سيد” من فتكه، لقد تنوع الاغتيال وما كان دارجاً في غابر الزمان لجهة الاغتيال الجسدي صار موضة قديمة جدا، هناك اغتيال بسلاح أفتك واكثر تدميرا عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
الخارج من بوابات بيروت يا “سيد” شمالاً او شرقاً او جنوباً، تطالعه جبال النفايات التي صار لها “روافد” تصل الى كل الاحياء والقرى والبلدات والمدن، تعلوها صور المرشحين للانتخابات النيابية الذي لم يتغيّروا حتى لا نستوحش بفقدهم، ولوحاتهم الاعلانية التي لو وفروا ثمنها لأطعمت وآوت وطببت الآلاف من العائلات المهدورة كرامتها بعدما سُلبت أدنى مقومات العيش، ونحن نتكل على سطوع انوار فضائحهم التي ما عادوا يخفونها، انما صاروا يفاخرون بها.
لا يتسع المجال لتعداد مآثرهم، الا ان المفجع ان يطلبوا من هذا الشعب الذي استعبدوه ان يجدد لهم عبر الذهاب في 15 أيار/مايو الى صناديق الاقتراع، محولين التنافس الانتخابي من تنافس ديمقراطي لبناني الى معركة كونية على قاعدة “إما معنا أو ضدنا”.
لذلك؛ حتى يبقى في هذا البلد بعض من شعب، انصتوا الى ما سبق وقاله لكم “السيد” ودعوا الناس تفكر لعلها تكتشف انها ما زالت موجودة.