ابن الراوندي.. رحلةُ شكٍ في محيط الإلحاد!

بلغت شهرته الآفاق وشطح بآرائه عن حاضنة المعتزلة الذين كان يعد واحدًا من أهم أعمدتها في القرن الثالث الهجري قبل أن يوسم بالإلحاد ولا ندري أهي تهمة في بيئة كان الإلحاد فيها داعيًا كافيًا للقتل والتصفية مع ملاحظة أنه لم يقتل ولم يُقَم عليه حد الارتداد والقتل في وقت كانت التهمة جاهزة من قبل السلطات وأعينها!

ومن القرائن على شكه ما لفت إليه السيد الأمين العاملي ونقله لرأي الشريف المرتضى علم الهدى عنه وما للشريف من مكانة علمية أضف إليها تحرزه وتقواه في التقول على الناس وإبداء الرأي في معتقداتهم لما يترتب على ذلك من براءة الذمة وعدم جواز التهم والإساءة إلى الحرمات الشخصية، قال السيد محسن الأمين في ترجمة أحواله في “أعيان الشيعة ج3- ص 204- 205”.:”أبو الحسين أحمد بن يحيى بن محمد بن إسحاق الراوندي المعروف بابن الراوندي من أهل مرو الروذ في خراسان ولد حدود سنة 205 وتوفي سنة 245 هجرية، والراوندي نسبة إلى راوند قرية من قرى قاشان بنواحي أصبهان بناها راوند الأكبر بن الضحاك بيوراسب.

أما أن سبب تركه لمذهب المعتزلة وإظهاره الاعتقاد بمذهب الشيعة وتأليفه لنصرة مذهبهم فهو طرد المعتزلة له، إذا أنه أراد إرغامهم بنصرة مذهب الشيعة فلم يأت إلا من جهة المعتزلة كأبي القاسم البلخي وأبي الحسين الخياط وغيرهما وقولهم في حقه غير مقبول فان الخصومة والعداوة تمنع قبول الشهادة وظاهر حاله أن رده عليهم وتأييده مذهب الشيعة ناشئ عن عقيدة على أن قولهم هذا ناشئ عن الظن والتخمين والاطلاع على السرائر متعذر لغير علام الغيوب وأما الكتب المنسوبة إليه فيأتي عن “المرتضى” العذر عنها وأنه كان يتبرأ منها براء ظاهراً وإن جلها قد نقضه على نفسه وقد سمعت نقل البلخي عن جماعة أنه تاب منها عند موته.

وزبدة القول في ابن الراوندي:”أنه مخطئ في تأليفه لهذه الكتب التي هي من كتب الضلال سواء كان ألفها معتقداً بها أو لأجل معارضة المعتزلة كما ذكره “المرتضى” في كلامه السابق إلا أنه مع نقضه لأكثرها وحكاية القول بتوبته منها لا يمكن الجزم بإلحاده ويبقى حاله في مرحلة الشك وإن جزمنا بخطئه والله العالم بسريرته”.

إن شك ابن الراوندي لا يتصف بالكفر ما دام يبحث عن حقيقة في سياقات مناقضته لآراء أخرى وما لم يزحف الكفر إلى وجدانه لا يمكننا جزافًا تكفير الأشخاص ما لم يجحدوا فعليًا وبشكل قاطع وعملاني في سيرتهم التي تقطع بذلك حتى لو كان معتقدًا بأمانيه في البداية ومن ثم تاب وتجاوز تلك الوسوسات والأفكار نحو اليقين

في خضم النشاط الكلامي والفكري برز ابن الراوندي – وليس من السهل على من ينتمي إلى مدرسة شهيرة كالمعتزلة – أن ينقلب عليها وينتصر لآراء أخرى بغض النظر عن خصائصها وتبعاتها العقيدية والسياسية بوجه التشيع الذي كان في وقت المعتزلة يتنفس بعيدًا نوعا ما عن الحصار والضغط والملاحقة، فلقد تتلمذ على يد أهم مشايخها: عيسى بن الهيثم الصوفي (ت 245هـ/859م)، أبو عيسى الوراق المعتزلي (ت 247هـ/861م)، أبو حفص الحداد (ت 252هـ/866م).

مع ذلك وكما قال السيد الأمين فإن سره وسريرته لا يعلمها الناس وعلينا أن نحاكم آراءه وظاهر حاله، وليس تأليفه لكتب تربو على العشرات فيها ما فيها من الشك فلا يمكننا أن نؤكد اعتقاده بها وقناعته فلربما تاب من كتابتها ونشرها تحرزًا من رميه بها لاحقًا على أنه ألفها في لحظة اشتباك داخلي مع نفسه ومع الخارج ممن طعن عليه وغالطه وأراد إقصاءه ومحاولة طرده التي رفضها واختار طريقا آخر لمجابهتها قد لا يستسيغه أصحاب الشأن الذين ثاروا عليه بقوة عندما رأوا منه خروجًا على فلكهم، وإلا علينا أن نجد تفسيرًا واضحًا ومستوفيًا لقسوة المعتزلة عليه وخوفهم من وجوده ضمن جماعتهم، فالتمايز عنهم ليس بالشيء الهين وليس مقبولاً في وهج صعود نجمهم، لذا كان لا بد من إضعافه وتوهينه وقد يكون الأمر تباين في الآراء كبير ومعارك مفتوحة تبرز تشنيعاً من البعض على البعض الآخر في سياق طبيعي وسم المرحلة التي عاشوها وقد لا يكون بالضرورة ظاهرة معتزلية في طرد وإقصاء الآخر المختلف بما يصور الأمور على أنها ديكتاتورية فكرية وهذا ما يحتاج إلى تحقق وتدقيق عند كل الفرق الكلامية والفكرية.

إن شك ابن الراوندي لا يتصف بالكفر ما دام يبحث عن حقيقة في سياقات مناقضته لآراء أخرى وما لم يزحف الكفر إلى وجدانه لا يمكننا جزافًا تكفير الأشخاص ما لم يجحدوا فعليًا وبشكل قاطع وعملاني في سيرتهم التي تقطع بذلك حتى لو كان معتقدًا بأمانيه في البداية ومن ثم تاب وتجاوز تلك الوسوسات والأفكار نحو اليقين، فالله تعالى قال {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}النساء:116.

ابن الراوندي، كما غيره من العلماء والفلاسفة والمفكرين، شكّلوا علامة فارقة في دنيا الحوار الداخلي والتفكير الذاتي المختمر الذي لم يكن ليؤمن بشكل سطحي وغير واع ولا بيقين لا يساوي صفرًا في مستوى القيمة والأثر السيّال، فهم لم يخافوا كما نحن من التفكير الحر وآمنوا أن الحرية الفكرية التي تحارب الجدل المزيف تساوق الصورة الجميلة المغروسة في الوجدان الحر عن الذات الإلهية التي لا تحوطها تصورات وأوهام وإن مر يقينهم في مراحل من تصورات وشكوك طريقية ليقين أرادوه صنيعة دواخلهم المشتعلة قلقًا ملتهبًا يحاول الإرتواء من مخرجات الحقيقة التائهة عبر حرية مكابِدة هي ذاتها هبة الله لهم التي حال انهارت تلك الحرية ينهار عالمهم، فقد جاء في “الوافي بالوفيات” للمؤرخ الصفدي: قال القاضي أبو علي التنوخي (ت384هـ/995م): كان أبو الحسين ابن الراوندي يلازم أهل الإلحاد، فإذا عوتب في ذلك قال: “إنما أريد أن أعرف مذاهبهم”.

إقرأ على موقع 180  شجرة العبادة.. وثمرة العدالة

فهل التعرف إلى مذاهب الإلحاد يعد خروجًا من ربقة الدين حينها؟ ولنا أن نتساءل عن رمي النديم له في كتابه “الفهرست” بالمنسلخ من الدين وأهمية مناقشة معايير الانسلاخ من الدين ومصداقيتها في تلك المرحلة وهل هي جديرة برمي الآخر بتهمة الإلحاد المؤدي إلى الكفر الفعلي؟

ليس علينا الصمت المحايد الذي يزيد الأمر ضبابية وكأنه موقف بحد ذاته، وليس علينا أن نكون من المدافعين عن أشخاص أو متحاملين عليهم، بل علينا أن نكون من الناقدين المنصفين ومن القارئين بتمعن لكل خلفيات تلك الشخصيات ومن كل الزوايا بعيدًا عن الترسبات المذهبية والعصبيات الطائفية حتى نكون ممن يؤسس لمشروع قارىء عقلاني وناقد يفكر ويعرض ويخلص إلى آرائه بهدوء من خلال ذهنية علمية باحثة عن المشهد ككل بما يغني مسيرتنا ويدفع نحو إبراز التراث وغناه الفكري والحضاري حيث أدمنا الترهل الذي أضحى طابعًا يطبع حاضرنا عبر خواء وفراغ قاتليْن.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

باحث وكاتب، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  بؤس محاولة أسلمة العلوم الحديثة